فصل: كِتَابُ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى (رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى (رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى):

(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ) اعْلَمْ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَخْتَلِفُ إلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَتَعَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ تِسْعَ سِنِينَ ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى مَجْلِسِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَانَ تِسْعَ سِنِينَ أَيْضًا، وَقِيلَ كَانَ سَبَبُ تَحَوُّلِهِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ تَقَلُّدَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْقَضَاءَ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ كَرِهَ لَهُ تَقَلُّدَ الْقَضَاءِ فَحَمَلَهُ ذَلِكَ إلَى التَّحَوُّلِ إلَى مَجْلِسِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ وَصَارَ ذَلِكَ صِفَةً لَهُ يُعْرَفُ بِهَا مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُقَال أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ مِمَّنْ تَقَلَّدَ مِنْهُمْ الْقَضَاءَ وَمِمَّنْ لَمْ يُقَلَّدْ وَقِيلَ كَانَ سَبَبُهُ أَنَّهُ كَانَ تَبِعَ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَقَدْ شَهِدَ مِلَاكَ رَجُلٍ فَلَمَّا نَثَرَ السُّكَّرَ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْضًا فَكَرِهَ لَهُ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَغْلَظَ لَهُ الْقَوْلَ وَقَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ فَجَاءَ أَبُو يُوسُفَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ بَلَغَنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَ فِي مِلَاكِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ نُثِيرُ الثَّمَرَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ ذَلِكَ وَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ انْتَهِبُوا» وَبَلَغَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَمَّا نَحَرَ مِائَةَ بَدَنَةٍ أَمَرَ بِأَنْ يُؤْخَذَ لَهُ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ قِطْعَةٌ ثُمَّ قَالَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَقْتَطِعَ فَلْيَقْطَعْ» فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ الْهِبَةِ مُسْتَحْسَنٌ شَرْعًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمَا تَحَوَّلَ إلَى مَجْلِسِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيلَ كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُنَاظِرُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَبَيَّنَ بِالْمُنَاظَرَةِ مَعَهُ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ فِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى فَتَحَوَّلَ إلَى مَجْلِسِ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ أَحَبَّ أَنْ يَجْمَعَ الْمَسَائِلَ الَّتِي كَانَ فِيهَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أُسْتَاذَيْهِ فَجَمَعَ هَذَا التَّصْنِيفَ وَأَخَذَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَوَى عَنْهُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ زَادَ بَعْضَ مَا كَانَ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ فَأَصْلُ التَّصْنِيفِ لِأَبِي يُوسُفَ وَالتَّأْلِيفُ لِمُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَعُدَّ ذَلِكَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ ثُمَّ بَدَأَ فَقَالَ: رَجُلٌ غَصَبَ جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ فَبَاعَهَا وَأَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي فَالْبَيْعُ وَالْعِتْقُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِهِ نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عِتْقُهُ جَائِزٌ وَعَلَى الْغَاصِبِ الْقِيمَةُ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْبَيْعَ مُنْعَقِدٌ فَإِنَّ انْعِقَادَ الْبَيْعِ لِوُجُودِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَقَدْ وُجِدَ فِي الْإِيجَابِ كَلَامُ الْمُوجِبِ وَهُوَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي حَقِّهِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلْعَقْدِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ الْعَقْدُ فِيهِ بِإِجَازَةِ الْمَالِكِ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْعَقْدُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ كَانَ نَافِذًا، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِذْنِ فِي إثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ، فَإِذَا ثَبَتَ انْعِقَادُ الْعَقْدِ ثَبَتَ أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لِعَيْنِهَا بَلْ لِحُكْمِهَا وَالْحُكْمُ الْخَاصُّ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الْمِلْكُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بَعْدَ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا عِتْقَ إلَّا فِيمَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ».
وَإِذَا نَفَذَ الْعِتْقُ تَعَذَّرَ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْعَيْنِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ وَقَدْ صَارَ هُوَ مُتْلِفًا لِلْجَارِيَةِ بِتَمْلِيكِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي وَتَسْلِيطِ الْمُشْتَرِي عَلَى إعْتَاقِهَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِالْقَتْلِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا، وَيَتَقَرَّرُ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ بِالْعِتْقِ صَارَ قَابِضًا مُنْهِيًا لِمِلْكِهِ فِيهَا، وَيَكُونُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ وَلِأَنَّهُ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ قَدْ مَلَكهَا وَالثَّمَنُ بَدَلُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ لِلْغَاصِبِ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِتْقَ مِنْ الْمُشْتَرِي لَمْ يُصَادِفْ مِلْكَهُ وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ وَهَذَا لِأَنَّ عَيْنَ الْمَمْلُوكِ مَحْفُوظَةٌ عَلَى الْمَالِكِ بِصِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ الْمِلْكِ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ بِإِعْتَاقٍ يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ مِلْكِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ أَعْتَقَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمَالِكِ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ الْعَقْدُ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ وَقَدْ انْعَقَدَ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ لَنَا أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ بِصِفَةِ التَّوَقُّفِ قُلْنَا وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِحَسَبِ السَّبَبِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ مِلْكًا مَوْقُوفًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ بِالْعَقْدِ النَّافِذِ الصَّحِيحِ يَثْبُتُ مِلْكٌ حَلَالٌ وَبِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَثْبُتُ مِلْكٌ حَرَامٌ بِحَسَبِ السَّبَبِ، فَبِالْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ يَثْبُتُ مِلْكٌ مَوْقُوفٌ، وَالْمِلْكُ الْمُوقَفُ دُونَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبُ لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ بِذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ بِالْمِلْكِ الْمَوْقُوفِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَالْمَوْقُوفُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَكُونُ خَالِيَةً عَنْ الْحُكْمِ وَلَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ بَلْ يَقْتَرِنُ بِهِ تَارَةً وَيَتَأَخَّرُ عَنْهُ أُخْرَى (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ مُنْعَقِدٌ وَيَتَأَخَّرُ الْحُكْمُ إلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ وَيَتَأَخَّرُ الْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ إلَى مَا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَالْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ مُنْعَقِدٌ وَيَتَأَخَّرُ الْحُكْمُ إلَى مَا بَعْدَ إجَازَةِ الْمَالِكِ، وَهَذَا لِأَنَّ الضَّرَرَ مَدْفُوعٌ وَلَيْسَ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ بِالْمَالِكِ.
فَأَمَّا فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي إضْرَارٌ بِالْمَالِكِ فَرُبَّمَا يَكُونُ الْمُشْتَرَى قَرِيبَ الْمُشْتَرِي فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمَالِكِ لَا مَحَالَةَ فَيَتَأَخَّرُ الْمِلْكُ إلَى وُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْمَالِكِ بِإِجَازَةِ الْعَقْدِ فَإِذَا لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ بَطَلَ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ جَمِيعًا فَرُدَّتْ الْجَارِيَةُ عَلَيْهِ.
وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ قَضَى لَهُ الْقَاضِي بِهَا وَبِمَهْرِهَا عَلَى الْوَاطِئِ لِأَنَّ الْحَدَّ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِشُبْهَةٍ فَلَزِمَهُ الْمَهْرُ؛ إذْ الْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَدٍّ أَوْ مَهْرٍ وَهَذَا الْوَطْءُ حَصَلَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ عِنْدَنَا فَوَجَبَ الْمَهْرُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْمِلْكُ وَإِنْ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي فَهُوَ لَيْسَ بِمِلْكٍ مُتَقَرِّرٍ يُسْتَفَادُ بِهِ حِلُّ الْوَطْءِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ كَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا قَبَضَ الْجَارِيَةَ وَوَطِئَهَا ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ هُوَ بِالْقَبْضِ قَدْ مَلَكَهَا، ثُمَّ الْوَاطِئُ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ وَالْمَهْرِ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ مِلْكُهُ وَأَنَّ مَنْفَعَةَ الْوَطْءِ تَسْلَمُ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ عِوَضٍ بَعْدَ مَا يَشْتَرِيهَا مِنْهُ فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهُ ذَلِكَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ لَوْ اسْتَوْلَدَهَا.
وَذَلِكَ الْحُكْمُ وَإِنْ كَانَ مَخْصُوصًا مِنْ الْقِيَاسِ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَكِنْ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَخْصُوصَ مِنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَهْرَ إنَّمَا لَزِمَهُ عِوَضًا عَمَّا اسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِلِاسْتِيفَاءِ وَمَنْفَعَةُ الْمُسْتَوْفَى لَهُ حَصَلَتْ لَهُ فَلَا يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَنْ وَهَبَ طَعَامًا لِإِنْسَانٍ فَأَكَلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ وَضَمِنَ الْآكِلُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْوَاهِبِ، وَإِنَّمَا الْغُرُورُ إنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلرُّجُوعِ بِاعْتِبَارِ الْمُعَاوَضَةِ، وَالثَّمَنُ إنَّمَا كَانَ عِوَضًا عَنْ الْعَيْنِ دُونَ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَفِي حَقِّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ ثَابِتًا بِالشِّرَاءِ أَوْ بِالْهِبَةِ، وَبِهِ فَارَقَ قِيمَةَ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ وَمُتَوَلِّدٌ مِنْ الْعَيْنِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ عِنْدَنَا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لِأَنَّ قِيَاسَ الْأَصْلِ يُعَارِضُهُ ثُمَّ الْغُرُورُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الرُّجُوعِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْعَيْنِ وَفِيمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْعَيْنِ.
فَأَمَّا الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الثَّمَرَةِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الرُّجُوعِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَرْضًا وَفِيهَا نَخْلٌ لَهُ ثَمَرَةٌ وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ النَّخْلُ لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُشْتَرِي وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ الثَّمَرَةُ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا لِأَنَّ الثَّمَرَةَ مُتَّصِلَةٌ بِالْمَبِيعِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ فَتَدْخُلُ فِي الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ كَأَطْرَافِ الْعَبْدِ وَأَغْصَانِ الشَّجَرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّخْلَ جُعِلَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِسَبَبِ الِاتِّصَالِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ مَوْجُودٌ فِيهَا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ اشْتَرَى نَخْلًا قَدْ أَثْمَرَ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ وَمَنْ اشْتَرَى غُلَامًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الثَّمَرَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ اتِّصَالَهَا بِالنَّخْلِ لَيْسَ بِالْقَرَارِ بَلْ لِلْفَصْلِ إذَا أَدْرَكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُجَدُّ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ أَوْ يَفْسُدُ إذَا تُرِكَ كَذَلِكَ فَكَانَ الِاتِّصَالُ فِي مَعْنَى الْعَارِضِ فَيُجْعَلُ كَالْمُنْفَصِلِ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَبِيعِ إلَّا بِالذِّكْرِ، بِخِلَافِ النَّخْلِ فَاتِّصَالُهُ بِالْأَرْضِ بِالْقَرَارِ مَا بَقِيَ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ فَكَمَا يَدْخُلُ الْبِنَاءُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ النَّخْلُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ اشْتَرَى الْأَرْضَ بِحُقُوقِهَا وَمَرَافِقِهَا دَخَلَ الثِّمَارُ فِي الْعَقْدِ وَإِلَّا لَمْ تَدْخُلْ.
فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَدْخُلُ الثِّمَارُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ ذَكَرَ الْحُقُوقَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ فِي الْأَرْضِ وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ أَمْلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَكَانَ مُحَمَّدٌ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ فَبَادَأَهُ الْمُسْتَمْلِي هُنَا مَنْ يُخَالِفُكَ رَحِمَكَ اللَّهُ فَقَالَ: مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَا نَصْنَعُ بِقَوْلِ رَجُلٍ قَعَدَ عَنْ الْعِلْمِ أَيْ تَرَكَ الِاخْتِلَافَ إلَيْنَا فَسَكَتَ مُحَمَّدٌ وَلَمْ يُجِبْهُ احْتِرَامًا لَهُ.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَابَّةً فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا وَقَالَ بِعْتَنِي وَهَذَا الْعَيْبُ بِهَا وَأَنْكَرَهُ الْبَائِعُ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَى الْبَائِعِ الْيَمِينُ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا عَيْبًا يُتَوَهَّمُ حُدُوثُهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَهُوَ عَارِضٌ فَيُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَهَذَا حَالَ كَوْنِهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا ادَّعَى اسْتِنَادَ الْعَيْبِ إلَى وَقْتٍ سَابِقٍ وَأَنْكَرَهُ الْبَائِعُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ مَعَ الْيَمِينِ وَلِأَنَّ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْبَيْعِ اللُّزُومُ فَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي لِنَفْسِهِ حَقَّ الْفَسْخِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ أَنَا أَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ يَعْنِي يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي حَتَّى أَقْبَلَهُ مِنْهُ فَعِنْدَنَا لَا يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا اتَّهَمَ الْمُدَّعِيَ فِي ذَلِكَ رَدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ قَالَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ وَجْهٍ مُنْكِرٌ؛ فَإِنَّهُ يُنْكِرُ لُزُومَ الْعَقْدِ إيَّاهُ وَوُجُوبَ إبْقَاءِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُدَّعٍ فَاعْتَبَرْنَا الظَّاهِرَ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَّهَمًا.
فَأَمَّا إذَا اتَّهَمَهُ اسْتَحْلَفَهُ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ فِي كَلَامِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ مَشْرُوعٌ لِدَفْعِ التُّهْمَةِ فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَثْبُتُ فِي جَانِبِهِ نَوْعُ تُهْمَةٍ فَيُحَلِّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَتَى بِخَبَرٍ مُتَمَثِّلٍ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يُورِثُ تُهْمَةً فَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِدَفْعِ تِلْكَ التُّهْمَةِ عَنْهُ، فَإِذَا أَوْجَدَ مِثْلَ تِلْكَ التُّهْمَةِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي رَدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِنْسَ الْيَمِينِ فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ فَلَا يَبْقَى يَمِينٌ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَلَا يَجُوزُ تَحْوِيلُ الْيَمِينِ عَنْ مَوْضِعِهَا الَّذِي وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَالْمُشْتَرِي مُدَّعٍ هُنَا حَقَّ الْفَسْخِ فَلَا يَمِينَ فِي جَانِبِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي مَوْضِعِهَا لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَالْمُدَّعِي يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ حَقٍّ غَيْرِ ثَابِتٍ لَهُ فَلَا يَكُونُ الْيَمِينُ حُجَّةً فِي جَانِبِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْيَمِينَ مَشْرُوعَةٌ لِلنَّفْيِ فِي مَوْضِعِهِ لَا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمُ النَّفْيِ حَتَّى لَوْ أَوْجَدَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ فَأَقَامَهَا وَقَضَى لَهُ بَعْدَ الْيَمِينِ فَهِيَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا لِأَنَّهَا لَا يَثْبُتُ بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا أَوَّلًا.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ شَيْئًا فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ دَعْوَى حَلَفَ الْمُشْتَرِي أَلْبَتَّةَ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُحَلِّفُ الْبَائِعَ فِي الْمِلْكِ كَمَا أَنَّ الْوَارِثَ يُحَلِّفُ الْمُوَرِّثَ ثُمَّ فِيمَا يُدَّعَى فِي التَّرِكَةِ إنَّمَا يُسْتَحْلَفُ الْوَارِثُ عَلَى الْعِلْمِ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الدَّعْوَى عَلَى الْبَائِعِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ صَارَ الْبَائِعُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَيَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الشِّرَاءَ سَبَبٌ مُتَجَدِّدٌ لِلْمِلْكِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ لِلْمُشْتَرِي وَصَارَ ثُبُوتُ هَذَا الْمِلْكِ لَهُ بِالشِّرَاءِ كَثُبُوتِهِ بِالِاصْطِيَادِ وَالِاسْتِرْقَاقِ ثُمَّ هُنَاكَ إذَا ادَّعَى إنْسَانٌ فِي الْمَمْلُوكِ دَعْوَى يَسْتَحْلِفُ الْمَالِكَ عَلَى الثَّبَاتِ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْإِرْثِ فَإِنَّ مَوْتَ الْمُوَرِّثِ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْوَارِثِ، ثُمَّ يَقُولُ الْمُدَّعِي يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ إلَيْهِ وَأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي أَخْذِهِ وَمَنْعِهِ مِنْهُ وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ غَصَبَهُ مِنْهُ كَانَ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى الثَّبَاتِ فَهُنَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الْوَارِثِ إذَا أَخَذَ عَيْنَ التَّرِكَةِ فَادَّعَى إنْسَانٌ أَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الثَّبَاتِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الِاسْتِحْلَافِ عَلَى الثَّبَاتِ، وَإِنَّمَا الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْخَصْمِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ عَلَى الثَّبَاتِ، وَلَمَّا كَانَ الشِّرَاءُ مِنْ ذِي الْيَدِ شَيْئًا مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لَهُ كَانَ ذَلِكَ مُطْلَقًا لَهُ الْيَمِينُ عَلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِحْلَافِهِ، قَالَ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ جَائِزَةٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ بِالْبَرَاءَةِ فَطَعَنَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ فَخُوصِمَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ يَمِينُك مَا بِعْتَهُ وَبِهِ عَيْبٌ عَلِمْتَهُ وَكَتَمْتَهُ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَصَلُحَ عِنْدَهُ فَبَاعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَاعَ بِالْبَرَاءَةِ وَعَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ حَتَّى يُسَمِّيَ كُلَّ عَيْبٍ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ لَا يَبْرَأُ حَتَّى يُسَمِّيَ الْعُيُوبَ بِأَسْمَائِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَالصُّلْحِ وَفِيهَا حِكَايَةٌ قَالَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى اجْتَمَعَا فِي مَجْلِسِ أَبِي جَعْفَرٍ الدَّوَالِقِيِّ فَأَمَرَهُمَا بِالْمُنَاظَرَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَرَى الْمُشْتَرِي مَوْضِعَ الْعَيْبِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَرَأَيْتَ لَوْ بَاعَ جَارِيَةً حَسْنَاءَ فِي مَوْضِعِ الْمَأْتِيِّ مِنْهَا عَيْبٌ أَكَانَ يَحْتَاجُ الْبَائِعُ إلَى كَشْفِ عَوْرَتِهَا لِيُرِيَ الْمُشْتَرِيَ ذَلِكَ الْعَيْبَ،.
أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ بَعْضَ حَرَمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَاعَ غُلَامًا حَبَشِيًّا عَلَى رَأْسِ ذَكَرِهِ بَرَصٌ أَكَانَ يَحْتَاجُ إلَى كَشْفِ ذَلِكَ لِيُرِيَهُ الْمُشْتَرِيَ فَمَا زَالَ يُشَنِّعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ هَذَا حَتَّى أَفْحَمَهُ وَضَحِكَ الْخَلِيفَةُ فَجَعَلَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُسَمِّيَ الْعُيُوبَ بِأَسْمَائِهَا لِأَنَّ صِفَةَ الْمَبِيعِ وَمَاهِيَّتَهُ إنَّمَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِتَسْمِيَةِ مَا بِهِ مِنْ الْعُيُوبِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْعُيُوبِ إسْقَاطٌ لِلْحَقِّ وَالْمُسْقِطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا فَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّتَهُ، ثُمَّ الْبَائِعُ بِهَذَا الشَّرْطِ يُمْنَعُ مِنْ الْتِزَامِ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَرُبَّمَا يَلْحَقُهُ الْجَرْحُ فِي تَسْمِيَةِ الْعُيُوبِ وَالْجَرْحُ مَدْفُوعٌ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ جَهَالَةً فِي الصِّفَةِ بِتَرْكِ تَسْمِيَةِ الْعُيُوبِ وَلَكِنَّ الْبَائِعَ يُلَاقِي الْعَيْنَ دُونَ الصِّفَةِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْعُيُوبِ وَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْجَهَالَةِ لِكَوْنِهِ إسْقَاطًا.
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ قَدْ حَلَّ فَأَخَّرَهُ عَنْهُ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْأَجَلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّأْجِيلَ مُعْتَادٌ جَرَى فِيمَا بَيْنَهُمَا أَنْ لَا يُطَالِبَهُ بِالْمَالِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي عَقْدٍ لَازِمٍ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ فِي عَقْدٍ لَازِمٍ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ فِي الثَّمَنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي عَقْدٍ لَازِمٍ.
وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ أَوْ أَصْلُ الْبَيْعِ إذَا ذُكِرَ فِيهِ الْأَجَلُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فِي الِابْتِدَاءِ يَثْبُتُ الْأَجَلُ فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّلَهُ فِي الثَّمَنِ فِي الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ هَذَا التَّأْجِيلَ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيَصِيرُ كَالْمَذْكُورِ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَجَلَ بِمَنْزِلَةِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْعَقْدِ فَإِنَّ تَوَجُّهَ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ وَيَتَغَيَّرُ بِالْأَجَلِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ وَيَتَغَيَّرُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ الْخِيَارُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ أَوْ يَجْعَلَهُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالرَّفْعِ وَالْإِبْقَاءِ فَيَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِمَا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ عَلَى وَجْهٍ هُوَ مَشْرُوعٌ وَتُعْتَبَرُ حَالَةُ الِانْتِهَاءِ بِحَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَبِهَذِهِ الْمَعَانِي يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّمَنِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَتَغَيَّبَ حَتَّى حَطَّ الطَّالِبُ بَعْضَهُ ثُمَّ ظَهَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا حَطَّ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُضْطَرًّا فِي هَذَا الْحَطِّ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ خَصْمِهِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ كَمَالَ حَقِّهِ، وَبِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الضَّرُورَةِ يَنْعَدِمُ تَمَامُ الرِّضَا مِنْهُ بِالْحَطِّ كَمَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْحَطِّ لَمْ يَصِحَّ حَطُّهُ لِعَدَمِ تَمَامِ الرِّضَا فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْحَطُّ إسْقَاطٌ وَهُوَ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ وَحْدَهُ فَإِذَا أَسْقَطَهُ وَهُوَ طَائِعٌ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الرُّجُوعُ فِي الْقَائِمِ دُونَ الْمُتَلَاشِي وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ إسْقَاطَ الْبَعْضِ مُعْتَبَرٌ بِإِسْقَاطِ الْكُلِّ وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ جَمِيعِ دَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَإِنْ ظَهَرَ خَصْمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا حَطَّ بَعْضَهُ.
وَقَوْلُهُ إنَّهُ مُضْطَرٌّ، قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَصِيرَ إلَى أَنْ يَظْهَرَ خَصْمُهُ فَالتَّأْخِيرُ لَا يُفَوِّتُ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ كَانَ مُخْتَارًا طَائِعًا فِي الْحَطِّ وَالصُّلْحِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ بَعْدَ مَا أَبَقَ الْمَغْصُوبُ ثُمَّ عَادَ مِنْ إبَاقِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ سَبِيلٌ وَلِهَذَا الْمَعْنَى صَحَّحْنَا إبْرَاءَهُ عَنْ الْكُلِّ وَفَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُكْرَهَ عَلَى الْإِبْرَاءِ فَكَذَلِكَ الْحَطُّ.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ ثَمَرًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مِنْ أَصْنَافِ الثِّمَارِ كُلِّهَا أَوْ اشْتَرَى طَلْعًا حِينَ يَخْرُجُ جَازَ الْعَقْدُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا خِيَارَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى تُشَقِّحَ أَيْ تُدْرِكَ وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى تَزْهُوَ أَيْ تَنْجُوَ مِنْ الْعَاهَةِ وَهَذَا بِالْإِدْرَاكِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرَةً فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» وَالْمُؤَبَّرَةُ هِيَ الَّتِي يَخْرُجُ طَلْعُهَا فَإِذَا شَرَطَ الْمُبْتَاعُ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ مُشْتَرِيًا الثَّمَرَةَ مَقْصُودَةً فَإِنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالذِّكْرِ فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ الْإِدْرَاكِ وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ عَيْنٌ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَالْمَالِيَّةُ بِالتَّمَوُّلِ التَّقَوُّمُ بِكَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَقَدْ تَمَّ هَذَا كُلُّهُ فِي الثِّمَارِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ، وَالْعَقْدُ مَتَى صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ كَانَ صَحِيحًا وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ إلَّا بِالْقَطْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ كَبَيْعِ الْجِذْعِ فِي السَّقْفِ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَادِرٌ عَلَى التَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ الْمُشْتَرِيَ وَهُوَ قَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ فَلَا يَمْتَنِعُ صِحَّةُ الْعَقْدِ بِسَبَبِهِ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بَيْعُهَا مُدْرِكَةً قَبْلَ الْإِدْرَاكِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ «أَرَأَيْتَ لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّمَرَةَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ» وَالْمُرَادُ بِهِ السَّلَمُ فِي الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «لَا تَتَلَقَّوْا فِي الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ لِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رَوَيْنَا.
فَإِنْ كَانَتْ الثِّمَارُ قَدْ تَلِفَتْ يَعْنِي انْتَهَى عِظَمُهَا فَاشْتَرَاهَا بِشَرْطِ التَّرْكِ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْعَقْدُ صَحِيحٌ هَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا شَرَطَ التَّرْكَ مُدَّةً يَسِيرَةً لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا يَتَنَاهَى عِظَمُهَا لَا تَزْدَادُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنَّمَا تُنْضِجُهَا الشَّمْسُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَأْخُذُ اللَّوْنَ مِنْ الْقَمَرِ وَالذَّوْقَ مِنْ النُّجُومِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ فِي هَذَا اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مَجْهُولٍ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَهُوَ شَرْطٌ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ فَيَكُونُ سَالِمًا لِلْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ تَقْرِيبٌ إلَى مَقْصُودِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى بَغْلًا وَشِرَاكَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ يَحْدُوَهَا الْبَائِعُ أَوْ اشْتَرَى حَطَبًا فِي الْمِصْرِ بِشَرْطِ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ، وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ هَذِهِ إعَارَةٌ أَوْ إجَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ فَيَبْطُلُ بِهَا الْبَيْعُ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ» وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ التَّرْكِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ فَهِيَ إجَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابِلِهَا شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ فَهِيَ إعَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ وَالْعُرْفُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ.
فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَلَا إذْ الْعُرْفُ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَقْدُ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ وَلَكِنْ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ هُنَاكَ لِلْعُرْفِ فَإِنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ بِخِلَافِهِ.
ثُمَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ لِأَنَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ حَيْلُولَةً بَيْنَ الْبَائِعِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ مِنْ مِلْكِهِ وَهُوَ النَّخِيلُ وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ وَفِيهِ يُعْتَبَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى حِنْطَةً بِشَرْطِ أَنْ يَطْحَنَهَا الْبَائِعُ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا شَرَطَ التَّرْكَ إلَى مُدَّةٍ يَفْسُدُ بِهَا الْعَقْدُ.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِائَةَ ذِرَاعٍ مُكَسَّرَةٍ مِنْ أَذْرُعٍ مَقْسُومَةٍ أَوْ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ مِنْ أَرْضٍ غَيْرِ مَقْسُومَةٍ لَمْ يَجُزْ الشِّرَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ جَائِزٌ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ الذِّرَاعَ اسْمٌ لِجُزْءٍ شَائِعٍ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ السَّهْمِ إلَّا أَنَّ السَّهْمَ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْإِضَافَةِ فَسَهْمٌ مِنْ سَهْمَيْنِ النِّصْفُ وَسَهْمٌ مِنْ عَشَرَةٍ الْعُشْرُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ سَهْمًا مِنْ كَذَا سَهْمًا وَالذِّرَاعُ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ فِي نَفْسِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يَقُولَ مِنْ كَذَا كَذَا ذِرَاعًا وَالْجَرِيبُ كَذَلِكَ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ بِالذِّرَاعِ فَإِنْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ وَجُمْلَةُ الْأَرْضِ مِائَةُ جَرِيبٍ فَإِنَّمَا اشْتَرَى عُشْرَهَا وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ.
وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى مِائَةَ ذِرَاعٍ فَإِذَا ذَرَعَ الْكُلَّ فَكَانَ أَلْفَ ذِرَاعٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ اشْتَرَى عُشْرَهَا، وَالْمُكَسَّرَةُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ الذِّرَاعِ بَيْنَ النَّاسِ سُمِّيَتْ مُكَسَّرَةً لِأَنَّهَا كُسِرَتْ مِنْ ذِرَاعِ الْمِلْكِ قَبْضَةً وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الذِّرَاعُ اسْمٌ لِجُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الذِّرَاعُ فَإِذَا اشْتَرَى مِائَةَ ذِرَاعٍ أَوْ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ فَإِنَّمَا سَمَّى فِي الْعَقْدِ جُزْءًا مُعَيَّنًا وَهُوَ عُشْرٌ مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ جَوَانِبَ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ فِي الْجَوْدَةِ وَالْمَالِيَّةِ فَتَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بِهَذَا السَّبَبِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ الدَّارِ، ثُمَّ إذَا جَازَ الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ فَإِنْ كَانَتْ مِائَةَ ذِرَاعٍ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَتْ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ فَالْمُشْتَرِي يَكُونُ شَرِيكًا بِقَدْرِ مِائَةِ ذِرَاعٍ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ مِائَةِ ذِرَاعٍ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا إنْ شَاءَ لِتَغْيِيرِ شَرْطِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ سَمَّى جُمْلَةَ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ إلَّا خَمْسُونَ ذِرَاعًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا نِصْفُ الثَّمَنِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى الْأَرْضَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ فَوَجَدَهَا خَمْسِينَ ذِرَاعًا وَاخْتَارَ أَخْذَهَا لَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ لِأَنَّ هُنَاكَ الثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ وَذُكِرَ الذِّرَاعُ عَلَى وَجْهِ بَيَانِ الصِّفَةِ وَهُنَا الثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ مَا سُمِّيَ مِنْ الذِّرَاعِ هُنَا لِبَيَانِ مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ إلَّا نِصْفُ الْمُسَمَّى لَا يَلْزَمُهُ إلَّا نِصْفُ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ حِنْطَةً فَوَجَدَهَا خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ عِتْقُ مَنْ قَدْ فَلَّسَهُ الْقَاضِي وَحَبَسَهُ فِي الدَّيْنِ، وَعِنْدَنَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ.
فَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: إنَّ مَالَهُ بِالتَّفْلِيسِ وَالْحَبْسِ صَارَ حَقًّا لِغُرَمَائِهِ فَإِعْتَاقُهُ صَادَفَ مَحَلًّا هُوَ حَقُّ الْغَيْرِ وَفِيهِ إضْرَارٌ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِّ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ عَمَلًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَرْهُونِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الرَّاهِنِ لِاشْتِغَالِهِ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الرَّهْنِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْعَبْدُ لَا يَزُولُ عَنْ مِلْكِهِ بِالتَّفْلِيسِ وَالْحَبْسِ فِي الدَّيْنِ وَلَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْغَرِيمِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ شَيْئًا مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْغَرِيمِ لَا يَنْفُذُ فَإِذَا بَقِيَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ فِيهِ لِأَنَّ شَرْطَ نُفُوذِ الْعِتْقِ مِلْكُ الْمَحَلِّ وَالْأَهْلِيَّةُ فِي الْعِتْقِ وَبَعْدَ وُجُودِهِمَا لَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغَيْرِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ عِتْقَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ يَنْفُذُ فِي نَصِيبِهِ وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُهُ وَكَذَلِكَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَنْفُذُ وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْبَائِعُ خُصُوصًا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا.
وَإِذَا أَعْطَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ مَتَاعًا يَبِيعُهُ لَهُ وَلَمْ يُسَمِّ بِالنَّقْدِ وَلَا بِالنَّسِيئَةِ فَبَاعَهُ بِالنَّسِيئَةِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْبَائِعُ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ الْمَتَاعِ يَدْفَعُهَا إلَى الْآمِرِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ بِمُطْلَقِ إيجَابِ الْبَيْعِ وَذَلِكَ مُنْصَرِفٌ إلَى النَّقْدِ خَاصَّةً فَكَذَلِكَ هَذَا وَإِذَا انْصَرَفَ إلَى النَّقْدِ كَانَ هُوَ مُخَالِفًا إذَا بَاعَهُ بِالنَّسِيئَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْآمِرِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى الثَّمَنِ إمَّا لِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى عِيَالِهِ وَالثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا لِلْوَكِيلِ كَانَ هُوَ مُخَالِفًا فِي بَيْعِهِ بِالنَّسِيئَةِ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْعُرْفِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَمْرُ مُطْلَقٌ فَتَقْيِيدُهُ بِالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ يَكُونُ زِيَادَةً وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْعُرْفُ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا لِهَذَا فَالْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْبَيْعِ لِلِاسْتِرْبَاحِ، وَالرِّبْحُ إنَّمَا يَحْصُلُ أَكْثَرُهُ بِالْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ ثُمَّ يَفْسُدُ الْمُطْلَقُ فِي مَعْنَى نَسْخِ حُكْمِ الْإِطْلَاقِ فَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْعُرْفِ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ وَالشَّيْءُ لَا يَنْسَخُهُ مَا دُونَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا نَصَّ عَلَى التَّقْيِيدِ وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ إيجَابِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَمَلَ هُنَاكَ بِالْإِطْلَاقِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَكُونُ إلَّا بِثَمَنٍ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ إمَّا النَّقْدُ أَوْ النَّسِيئَةُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْتُهُ مِنْكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ شِئْتَ بِالنَّقْدِ وَإِنْ شِئْتَ بِالنَّسِيئَةِ؛ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالْإِطْلَاقِ هُنَا مُمْكِنٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْهُ بِالنَّقْدِ أَوْ بِالنَّسِيئَةِ كَانَ صَحِيحًا وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ نَفَذَ بِسَبَبِ حَرَامٍ وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ كَانَتْ لِحَقِّ الْأَمْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ الْفَضْلَ إلَى الْآمِرِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ لَمْ يَرْجِعْ الْبَائِعُ عَلَى الْآمِرِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حِينَ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ عَلَى وَجْهٍ صَارَ مُخَالِفًا وَهُوَ الْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ فَيَكُونُ الْخُسْرَانُ عَلَيْهِ.
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ جَارِيَةً بِجَارِيَةٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ وَجَدَ أَحَدُهُمْ بِالْجَارِيَةِ الَّتِي قَبَضَ عَيْبًا فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا وَيَأْخُذُ جَارِيَتَهُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَرُدُّهَا وَيَأْخُذُ قِيمَتَهَا صَحِيحَةً.
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ حَيَوَانٍ أَوْ عَرْضٍ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعِوَضِ الَّذِي مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ مُشْتَرًى اشْتَرَاهُ بِعِوَضِهِ وَفِي الْعِوَضِ الَّذِي مِنْ جَانِبِهِ بَائِعٌ وَالْبَيْعُ غَيْرُ الشِّرَاءِ فَإِذَا وَجَدَ عَيْبًا بِمَا اشْتَرَى فَرَدَّهُ يَبْطُلُ الشِّرَاءُ وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الْعِوَضِ الْآخَرِ كَانَ عَلَى صَاحِبِهِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ إلَيْهِ كَمَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ صَحِيحًا وَقَدْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهِ كَمَا فِي النِّكَاحِ إذَا وَجَدَتْ الْمَرْأَةُ بِالصَّدَاقِ عَيْبًا فَاحِشًا فَرَدَّتْ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ بِقِيمَتِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ حُكْمُ الرَّدِّ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَرْدُودِ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْعِوَضِ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْقِيمَةَ سُمِّيَتْ قِيمَةً لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ فَصَارَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى تَسْلِيمِ قِيمَتِهَا صَحِيحَةً كَقُدْرَتِهِ عَلَى تَسْلِيمِ عَيْنِهَا فَيَبْقَى الْعَقْدُ فِي الْبَدَلِ الْمَوْجُودِ عَلَى شَرْطِ الْعَقْدِ بِقِيمَةِ الْآخَرِ.
وَجْهُ قَوْلِنَا إنَّ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَنْفَسِخُ الْقَبْضُ فِي الْمَرْدُودِ مِنْ الْأَصْلِ وَيَتَحَقَّقُ عَجْزُ بَائِعِهَا عَنْ تَسْلِيمِهَا كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِيهِمَا جَمِيعًا فَكَذَلِكَ إذَا رُدَّتَا بِالْعَيْبِ، وَبِهِ فَارَقَ النِّكَاحَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ فَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي الِابْتِدَاءِ هُنَاكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَالتَّسْمِيَةُ بِأَنْ يُزَوِّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ تَصِحُّ.
وَإِذَا عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى يَجِبُ قِيمَتُهُ فَهُنَالِكَ الْعَجْزُ فِي الِانْتِهَاءِ وَهُنَا الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِعَبْدِ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ فَكَذَلِكَ إذَا عَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي الِانْتِهَاءِ بَطَلَ الْعَقْدُ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ بِحُكْمِهِ، ثُمَّ الْقِيمَةُ إنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ، وَالْحَاجَةُ هُنَا إلَى تَسْلِيمِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَهِيَ جَارِيَةٌ صَحِيحَةٌ لَا إلَى تَسْلِيمِ الْعَيْنِ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ كَانَتْ مُسَلَّمَةً إلَيْهِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا لَكَانَ يَأْخُذُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالْعَقْدِ الْقِيمَةَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَلِهَذَا لَا يَبْقَى الْعَقْدُ بَعْدَ رَدِّهَا بِالْعَيْبِ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ اسْتَرَدَّ دَرَاهِمَهُ وَلَمْ يَرْجِعْ بِقِيمَتِهَا فَهَذَا مِثْلُهُ.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ سِلْعَةً فَطَعَنَ فِيهَا بِعَيْبٍ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعَيْبِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودٍ عَلَى الْعَيْبِ حَتَّى يَنْقُدَ الثَّمَنَ لِأَنَّ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ وَإِنَّمَا تَصِحُّ الدَّعْوَى مِنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ وُجُودِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ يُطَالِبُ الْبَائِعَ بِرَدِّ الثَّمَنِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ إنْقَادِ الثَّمَنِ وَبِدُونِ دَعْوَى صَحِيحَةٍ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ؛ إذْ الرَّدُّ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ مُعْتَبَرٌ بِالرَّدِّ بِالْإِقْرَارِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْعَيْبِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعَيْبِ، قَوْلُهُ بِأَنَّ دَعْوَاهُ لَا يَصِحُّ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُطَالِبُ الْبَائِعَ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ وَذَلِكَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِالْعَقْدِ فَيَصِحُّ مِنْهُ دَعْوَى الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ ثُمَّ إذَا تَحَقَّقَ عَجْزُ الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِهِ رُدَّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ، ثُمَّ هُوَ يَدَّعِي بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عَنْ الثَّمَنِ بَعْدَ رَدِّ الْعَيْنِ عَلَيْهِ، وَدَعْوَى سَبَبِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الدُّيُونِ دَعْوَى صَحِيحَةٌ فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَالْعَقْدُ لَازِمٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ يَدَّعِي انْعِدَامَ لُزُومِهِ فِي جَانِبِهِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ وَهَذِهِ دَعْوَى صَحِيحَةٌ مِنْهُ كَدَعْوَى شَرْطِ الْخِيَارِ.
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ كَبِيرٌ دَارًا أَوْ مَتَاعًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا عُذْرَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بَيْعُهُ جَائِزٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيكَ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ لَمِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ» فَفِي الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَالَ الْوَلَدِ مَمْلُوكٌ لِلْوَالِدِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ، فَفِي الْحَقِيقَةِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى هَذَا فَإِنَّ عِنْدَهُ مَالَ الْوَلَدِ فِي حُكْمِ الْمَمْلُوكِ لِلْوَالِدِ وَلِهَذَا قَالَ: لَهُ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةَ ابْنِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، وَعِنْدَنَا لَا مِلْكَ لَهُ فِي مَالِ وَلَدِهِ وَلَا حَقَّ مِلْكٍ لِأَنَّ الْكَسْبَ إنَّمَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْكَاسِبِ وَلَيْسَ لَهُ فِي وَلَدِهِ مِلْكٌ فَكَذَلِكَ فِي كَسْبِ وَلَدِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَلَدَ مَالِكٌ لِكَسْبِهِ حَقِيقَةً حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ مِنْ الْوَطْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَنْفُذُ فِيهِ إعْتَاقُهُ، وَإِنَّمَا يَخْلُفُ الْكَاسِبَ غَيْرُهُ فِي الْمِلْكِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ مِنْ أَهْلِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لَا يَمْلِكُ غَيْرُهُ الْكَسْبَ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ وَلَا يَمْلِكُهُ ابْتِدَاءً لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً يَسْتَدْعِي سَبَبًا لَهُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ يَتَصَرَّفُ فِي حَالِ ضَرِّهِ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ نَظَرًا لِلْوَلَدِ لِأَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا عَنْ التَّصَرُّفِ وَالنَّظَرِ وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى بِبُلُوغِهِ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي نَفْسِهِ بِالتَّزْوِيجِ كَانَ يَنْفُذُ قَبْلَ بُلُوغِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ ثُمَّ لَا يَنْفُذُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ فِي مَالِهِ.
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ مَتَاعًا لِرَجُلٍ وَهُوَ حَاضِرٌ سَاكِتٌ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى سُكُوتُهُ إقْرَارٌ بِالْبَيْعِ أَيْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَازَةِ فَيَنْفُذُ بِهِ الْبَيْعُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ جِهَةُ الرِّضَا بِسُكُوتِهِ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي وَصَارَ الْمَالِكُ بِسُكُوتِهِ كَالْغَارِّ لَهُ وَالْغُرُورُ حَرَامٌ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ فَهُوَ قِيَاسُ سُكُوتِ الْمَوْلَى عَنْ النَّهْيِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ أَنَّهُ يَجْعَلُ إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ لَا يَسْكُتُ إذَا رَأَى غَيْرَهُ يَبِيعُ مَا أَمَرَ بِتَسْلِيمِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الرِّضَا بِهِ فَبِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ يُجْعَلُ سُكُوتُهُ دَلِيلَ الرِّضَا.
وَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ السُّكُوتُ شَرْعًا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الرِّضَا وَفِعْلُ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ شَرْعًا فَجُعِلَ سُكُوتُهُ دَلِيلَ الرِّضَا لِهَذَا كَمَا جَعَلَ الشَّرْعُ سُكُوتَ الْبِكْرِ رِضًا مِنْهَا بِالنِّكَاحِ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ سُكُوتَهُ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الرِّضَا وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّهَاوُنِ وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّعَجُّبِ أَيْ لِمَاذَا يَفْعَلُ هَذَا فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَإِلَى مَاذَا تَئُولُ عَاقِبَةُ فِعْلِهِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَمِلْكُ الْمَالِكِ ثَابِتٌ فِي الْعَيْنِ بِيَقِينٍ فَلَا يَجُوزُ إزَالَتُهُ بِدَلِيلٍ مُحْتَمَلٍ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِيمَا اُسْتُشْهِدَ بِهِ مِنْ سُكُوتِ الْمَوْلَى وَسُكُوتِ الْبِكْرِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي سُكُوتِ الْبِكْرِ بِالنَّصِّ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَيَاءَ يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّصْرِيحِ بِالْإِجَازَةِ هُنَاكَ وَلَيْسَ هُنَا مَا يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّطْقِ، وَلَوْ تَعَيَّنَ جِهَةُ الرِّضَا فِي سُكُوتِ الْمَوْلَى لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ شَيْءٌ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى شَيْءٌ وَلَا يَبْطُلُ مِلْكُهُ عَنْ شَيْءٍ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ، وَهُنَا لَوْ تَعَيَّنَ جِهَةُ الرِّضَا زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ وَلَزِمَهُ حُكْمُ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ، وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هُنَاكَ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ السُّكُوتُ رِضًا تَضَرَّرَ بِهِ مَنْ عَامَلَ الْعَبْدَ وَلَوْ جَعَلْنَا السُّكُوتَ إذْنًا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ الْمَوْلَى فِي الْحَالِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ دَفْعِ الضَّرَرِ، وَهُنَا لَوْ جَعَلْنَا السُّكُوتَ رِضًا تَضَرَّرَ بِهِ الْمَالِكُ وَلَزِمَهُ حُكْمُ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ، وَلَوْ لَمْ نَجْعَلْهُ رِضًا تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْمَالِكِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْعَيْنِ أَسْبَقُ وَالْمُشْتَرِي هُوَ الْمُقِرُّ حِينَ لَمْ يَسْأَلْ الْمَالِكَ أَنَّ الْبَائِعَ وَكَّلَهُ أَمْ لَا وَاعْتَمَدَ سُكُوتًا مُحْتَمَلًا، ثُمَّ الْحَاجَةُ هُنَا إلَى التَّوْكِيلِ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ يَكُونُ نَائِبًا عَنْ الْمَالِكِ وَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ، وَالتَّوْكِيلُ بِالسُّكُوتِ لَا يَثْبُتُ.
فَأَمَّا الْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ إسْقَاطٌ مِنْ الْمَوْلَى حَقَّهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَصِيرُ نَائِبًا عَنْ الْمَوْلَى فِي التَّصَرُّفِ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْعُهْدَةِ وَسُكُوتُهُ إعْرَاضٌ مِنْهُ عَنْ الرَّدِّ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إسْقَاطًا لِحَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ.
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ نَصِيبًا فِي دَارٍ غَيْرِ مَقْسُومٍ فَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِوُجُوهِهَا فِي آخِرِ الشُّفْعَةِ وَلَكِنْ هُنَاكَ ذِكْرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ وَأَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ إنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِنَصِيبِ الْبَائِعِ وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا عَلِمَ بِهِ وَذَكَرَ هُنَا قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَجَزْتُ بَيْعَ النَّصِيبِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ وَإِنْ كَانَتْ سِهَامًا كَثِيرَةً لَمْ أُجِزْهُ حَتَّى يُسَمِّيَ لِأَنَّ عِنْدَ كَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ تَتَفَاحَشُ الْجَهَالَةُ وَالتَّفَاوُتُ إذَا لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الْبَائِعِ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِي، وَعِنْدَ قِلَّةِ الشُّرَكَاءِ يَقِلُّ التَّفَاوُتُ وَالْجَهَالَةُ وَفِي الْبَيْعِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ وَالْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ بَيْعَ أَحَدِ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ مَعَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إذَا سَمَّى ثَمَنَ كُلِّ ثَوْبٍ مِنْهَا يَجُوزُ وَفِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ لَا يَجُوزُ وَكَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ وَقِلَّةِ الْجَهَالَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْبَيْعُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ نَصِيبَ الْبَائِعِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ وَقِلَّةِ الشُّرَكَاءِ فَقَدْ يَقِلُّ نَصِيبُهُ مَعَ قِلَّةِ الشُّرَكَاءِ وَقَدْ يَكْثُرُ نَصِيبُهُ مَعَ كَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ فَلَا مَعْنَى لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عِنْدَ كَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ جَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى وُجُوهٍ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ عِنْدَ قِلَّةِ الشُّرَكَاءِ؛ فَالْمُشْتَرِي يَقُولُ: نَصِيبُ الْبَائِعِ النِّصْفُ وَالْبَائِعُ يَقُولُ نَصِيبِي مِنْ الدَّارِ الْعُشْرُ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ، وَشِرَاءُ أَحَدِ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثِ مُسْتَحْسَنٌ مِنْ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ثُمَّ الْجَهَالَةُ هُنَاكَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ إذَا شُرِطَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي.
وَإِذَا خَتَمَ الرَّجُلُ عَلَى شِرَاءٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَسْلِيمًا لِلْبَيْعِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ تَسْلِيمٌ لِلْبَيْعِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا شَهِدَ عَلَى بَيْعِ الدَّارِ فَكَتَبَ شَهَادَتَهُ وَخَتَمَهَا ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الدَّارَ لَهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنَّ بَيِّنَتَهُ تَكُونُ مَقْبُولَةً عَلَى الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا وَيُقْضَى لَهُ بِالْمِلْكِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الدَّارُ سَالِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ عَلَى أَصْلِهِ لَمَّا جُعِلَ السُّكُوتُ مِنْ الْمَالِكِ رِضًى بِالْبَيْعِ فَخَتْمُ الشَّهَادَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ رِضًا بِالْبَيْعِ، قَالَ كَتْبُهُ الشَّهَادَةَ لِلتَّوَثُّقِ وَهَذَا التَّوَثُّقُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إذَا صَحَّ شِرَاؤُهُ فَيَجْعَلُ إقْدَامَ الشَّاهِدِ عَلَى ذَلِكَ إقْرَارًا مِنْهُ بِصِحَّةِ شِرَاءِ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّا نَقُولُ كَتْبُهُ الشَّهَادَةَ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّعَجُّبِ حَتَّى يَنْظُرَ كَيْفَ يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ مِلْكِهِ أَوْ تُحْمَلُ الشَّهَادَةِ عَلَى مَعْنَى التَّوَثُّقِ إذَا بَدَا لَهُ أَنْ يُجِيزَ الْمَبِيعَ أَوْ يَحْتَمِلَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ لَمْ يَعْلَمْ عِنْدَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ أَنَّ الْمَبِيعَ دَارُهُ فَلَعَلَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْمَبِيعَ دَارٌ أُخْرَى حُدُودُهَا تُوَافِقُ حُدُودَ دَارِهِ وَبِالْمُحْتَمَلِ لَا يَزُولُ الْمِلْكُ فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ تَسْلِيمًا مِنْهُ لِلْبَيْعِ.
وَإِذَا بِيعَ الرَّقِيقُ أَوْ الْمَتَاعُ فِي عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ وَذَلِكَ مِنْ مَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ غَلَبُوهُمْ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ جَائِزٌ وَإِنْ قَتَلَ الْخَوَارِجَ قَبْلَ أَنْ يَبِيعُوهُ وَهُوَ بِعَيْنِهِ رُدَّ عَلَى أَهْلِهِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا فَابْنُ أَبِي لَيْلَى جَعَلَ مَنْعَهُ لِلْخَوَارِجِ كَمَنْعِهِ أَهْلَ الْحَرْبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ تَتَنَاوَلُ الدَّيْنَ، وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي لِلْخَوَارِجِ أَقْرَبُ إلَى الصِّحَّةِ مِنْ تَأْوِيلِ الْكُفَّارِ فَإِذًا كَانَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْمَنَعَةِ وَالتَّأْوِيلِ يَمْلِكُونَ مَا أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُمْ فِيهِ فَكَذَلِكَ الْخَوَارِجُ يَمْلِكُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُمْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَتَلَ الْخَوَارِجَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَنَعَةً، وَثُبُوتُ هَذَا الْحُكْمِ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمَنَعَةِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى أَهْلِهَا وَبِهَذَا لَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا كَمَا لَوْ اسْتَوْلَى الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْغَنِيمَةِ فَوَجَدَهَا أَصْحَابُهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، رُدَّتْ عَلَيْهِمْ مُحَابَاةً وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ مَلَكُوهَا فَهَذَا مِثْلُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّسْوِيَةِ أَنَّ الْخَوَارِجَ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَنُفُوسِهِمْ، كَمَا لَا يَضْمَنُ أَهْلُ الْحَرْبِ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا سَوَّى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ فَهَذَا اسْتِيلَاءُ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ كَغَصْبِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ مَالَ بَعْضِهِمْ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَنَعَةَ الْخَوَارِجِ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْمِلْكُ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَتِمَّ الْقَهْرُ وَتَمَامُهُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارٍ تُخَالِفُ دَارَ صَاحِبِ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ بَعْدَ إحْرَازِ الْخَوَارِجِ الْمَالَ بِمَنَعَتِهِمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّ قَهْرَهُمْ يَتِمُّ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ، وَمَا كَانَ مَنَعَةُ الْخَوَارِجِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا كَمَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَنَا مَا دَامُوا فِي دَارِنَا وَإِنْ كَانُوا مَمْنُوعِينَ فَكَذَلِكَ الْخَوَارِجُ فَلَا فَرْقَ فَإِنَّا لَوْ قَدَرْنَا عَلَى الْخَوَارِجِ اسْتَبَيْنَاهُمْ وَرَدَدْنَا الْمَالَ عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا لَوْ أَنَّا قَدَرْنَا عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَرَضْنَا عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ وَرَدَدْنَا الْمَالَ عَلَى صَاحِبِهِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَالَ مَا دَامَ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُمْلَكُ بِالْقَهْرِ لِأَنَّهُ بِالْإِحْرَازِ مَعْصُومٌ وَالْقَهْرُ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي مَحَلٍّ مُبَاحٍ لَا فِي مَحَلٍّ مَعْصُومٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّيْدَ الْمُبَاحَ يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ وَالصَّيْدَ الْمَمْلُوكَ لَا يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ، فَبِإِحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ الْمَالَ بِدَارِهِمْ يَبْطُلُ حُكْمُ الْإِحْرَازِ وَالْعِصْمَةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُونَهُ بِإِحْرَازِ الْخَوَارِجِ الْمَالَ بِمَنَعَتِهِمْ وَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْإِحْرَازِ وَالْعِصْمَةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُونَهُ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ الْخَوَارِجَ وَهُوَ بَاقٍ بِعَيْنِهِ رُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَوْ صَارَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُمْ لَكَانَ مِيرَاثًا عَنْهُمْ إذَا قُتِلُوا.
فَأَمَّا سُقُوطُ الضَّمَانِ فَهُوَ حُكْمٌ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلَّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلَّ مَالٍ أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ الْمَنْصُوصِ فَإِنَّ مَعَ بَقَاءِ الْإِحْرَازِ الْقِسْمَةُ قَدْ تَسْقُطُ بِالضَّمَانِ بِأَسْبَابٍ وَلَكِنَّ بَقَاءَ الْإِحْرَازِ وَالْعِصْمَةِ لَا يُمَلِّكُ الْمَالَ بِحَالٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الشَّهَادَاتِ إذَا بَاعَ مُسْلِمٌ دَابَّةً مِنْ نَصْرَانِيٍّ فَاسْتَحَقَّهَا نَصْرَانِيٌّ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بِبَيِّنَةٍ مِنْ النَّصَارَى وَقَدْ بَيَّنَّا خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَإِذَا اسْتَهْلَكَ الرَّجُلُ الْغَنِيُّ مَالَ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ فَهُوَ ضَامِنٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ أَنَّ عِنْدَهُ الْأَبُ مَالِكٌ مَالَ وَلَدِهِ شَرْعًا، وَإِتْلَافُ الْإِنْسَانِ مِلْكَهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَنَا لَيْسَ لَهُ فِي مَالِ وَلَدِهِ مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ إذَا أَتْلَفَهُ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُ شَرْعًا حَقُّ التَّنَاوُلِ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَذَلِكَ لَا يَنْفِي الضَّمَانَ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ كَالْمَرْأَةِ فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُنْفِقَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ أَتْلَفَتْ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِدُونِ الْحَاجَةِ كَانَتْ ضَامِنَةً فَالْأَبُ كَذَلِكَ.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ عَبْدًا مَعَ الْجَارِيَةِ وَزَادَ مَعَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا وَقَدْ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْعَبْدَ وَيَأْخُذُ الْمِائَةَ وَقِيمَةَ الْجَارِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ هِيَ الَّتِي وُجِدَ بِهَا الْعَيْبُ وَقَدْ مَاتَ الْعَبْدُ رُدَّتْ الْجَارِيَةُ وَقُسِمَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَلَى قِيمَةِ الْجَارِيَةِ فَيَكُونُ لَهُ مَا أَصَابَ الْمِائَةَ وَيَرُدُّ مَا أَصَابَ مِنْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إنْ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبٌ رَدَّهُ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ صَحِيحَةً وَكَانَتْ الدَّرَاهِمُ لِلَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى بِرَدِّ الْعَبْدِ بِالْعَيْبِ لَا يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ فِي الْجَارِيَةِ وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ.
وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْجَارِيَةِ مِنْ الْعَبْدِ عِنْدَنَا يَبْقَى فِي حِصَّةِ الْمِائَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ بِيعَ بِدَرَاهِمَ وَلَكِنَّهُ بَيْعٌ كَبَيْعِ الْمُقَابَضَةِ وَحُكْمُ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَلِهَذَا لَا فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ فِيهِ وَيَأْخُذُ قِيمَتَهُ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَى بَائِعِ الْعَبْدِ تَسْلِيمُ عَيْنِهِ صَحِيحًا.
فَأَمَّا عِنْدَ الْعَقْدِ فِي الْجَارِيَةِ يَبْطُلُ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْعَبْدِ بِالْعَيْبِ فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ وَجَبَ عَلَى قَابِضِ الْجَارِيَةِ رَدُّهَا وَقَدْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِهَلَاكِهَا فِي يَدِهِ فَيَرُدُّ قِيمَتَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا إذَا هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.
وَأَمَّا فِي حِصَّةِ الْمِائَةِ فَالْعَبْدُ كَانَ بِيعَ بِالدَّرَاهِمِ فَإِذَا رُدَّ الْمَعِيبُ بِالْعَيْبِ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ بِالْجَارِيَةِ فَرُدَّتْ وَقَدْ مَاتَ الْعَبْدُ فَقَدْ اُنْتُقِضَ الْعَقْدُ فِيمَا يُقَابِلُ الْجَارِيَةَ مِنْ الْعَبْدِ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ هَلَاكُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لَا يَمْنَعُ فَسْخَ الْعَقْدِ بِرَدِّ الْآخَرِ بِالْعَيْبِ فَإِنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا يَنْفَسِخُ فِي الْمَرْدُودِ مَقْصُودًا وَيَثْبُتُ حُكْمُ الْفَسْخِ فِيمَا بَقِيَ وَلَا يَنْفَسِخُ فِي الْمَرْدُودِ مَقْصُودًا وَيَثْبُتُ حُكْمُ الْفَسْخِ فِيمَا بَقِيَ وَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْمِائَةِ مِنْ الْعَبْدِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِيَعًا بِالدَّرَاهِمِ وَقَدْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِهَذَا يُقَسَّمُ الْعَبْدُ عَلَى الْمِائَةِ وَعَلَى قِيمَةِ الْجَارِيَةِ فَيَغْرَمُ مُشْتَرِي الْعَبْدِ مَا أَصَابَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا أَصَابَ الْمِائَةَ الدِّرْهَمَ لِبَقَاءِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ ثَوْبَيْنِ وَقَبَضَهُمَا فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا وَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا فَرَدَّهُ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْبَائِعِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي حَقِّهِ قِبَلَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ رَدِّ الثَّوْبِ الْآخَرِ فَيَقُولُ قِيمَةُ الْمَرْدُودِ أَلْفٌ وَقِيمَةُ الْهَالِكِ فِي يَدِي أَلْفٌ فَلِي عَلَيْك نِصْفُ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ قِيمَةُ الْهَالِكِ فِي يَدِي كَانَ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنَّمَا هَلَكَ عَلَى ثُلُثِ الثَّمَنِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ كَمَا لَوْ قَبَضَ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ وَهَلَكَ الْآخَرُ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الثَّمَنَ كُلَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقَبْضِ ثَوْبَيْنِ ثُمَّ رَدُّ أَحَدِهِمَا بِالْعَيْبِ يُسْقِطُ عَنْهُ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ فَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةً فِيمَا سَقَطَ عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ يَقُولُ كَانَ قِيمَةُ الْهَالِكِ فِي يَدِي خَمْسَمِائَةٍ وَقِيمَةُ الْمَرْدُودِ أَلْفًا فَسَقَطَ عَنْهُ ثُلُثَا الثَّمَنِ وَالْبَائِعُ يَقُولُ قِيمَةُ الْهَالِكِ فِي يَدِكَ كَانَ أَلْفًا فَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْك نِصْفُ الثَّمَنِ وَبَعْدَ مَا تَقَرَّرَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَوْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ سُقُوطَ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ عَنْهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ سُقُوطَ الزِّيَادَةِ عَنْهُ وَاعْتِبَارُ هَذَا الْجَانِبِ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ قِيمَةِ الْهَالِكِ بَلْ الْمَقْصُودُ سُقُوطُ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالرَّدِّ وَتَقَرُّرِهِ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ أَحَدُ الثَّوْبَيْنِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَالْآخَرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ هُنَاكَ أَنَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ لَمْ يَتَقَرَّرْ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ تَقَرُّرَ الثَّمَنِ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ وَهُوَ مَا قَبَضَ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا تَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ فَالْبَائِعُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ وَهُوَ يُنْكِرُهَا لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ هُنَاكَ فِي مِقْدَارِ مَا قَبَضَ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْكَرَ الْقَبْضَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ قَبْضَ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ مَا رُدَّ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ رَدَّ شَيْءٍ عَلَيْهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ رَدَّ الزِّيَادَةَ.
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا وَبَنَى فِيهَا بِنَاءً ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ بِنَاءَ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذُ الدَّارَ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الدَّارَ وَالْبِنَاءَ وَيُعْطِي الثَّمَنَ وَقِيمَةَ الْبِنَاءِ إنْ شَاءَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ.
وَإِذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِلْيَتِيمِ وَعَلِمَ بِهَا الْوَصِيُّ أَوْ الْأَبُ فَلَمْ يَطْلُبْهَا فَلَيْسَ لِلْيَتِيمِ شُفْعَةٌ إذَا أَدْرَكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَهُ الشُّفْعَةُ إذَا أَدْرَكَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الشُّفْعَةِ، وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ.
وَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ رَجُلٌ عَنْ الْمَطْلُوبِ وَالْمَطْلُوبُ مُتَغَيِّبٌ أَوْ أَخَّرَ الطَّالِبُ عَنْهُ الدَّيْنَ وَهُوَ مُتَغَيِّبٌ جَازَ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ تَبَرُّعٌ عَنْ الْمَطْلُوبِ بِالْأَجَلِ وَلَوْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ لَمْ يَتِمَّ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِالْأَجَلِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّأْجِيلُ إسْقَاطٌ لِلْمُطَالَبَةِ إلَى مُدَّةٍ وَالْإِسْقَاطُ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ وَحْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ وَهَذَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ الطَّالِبِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ خَالِصُ حَقِّهِ وَلَيْسَ فِي التَّأْجِيلِ إلَّا إسْقَاطُ الْمُطَالَبَةِ فَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ لَا يَمَسُّ جَانِبَ الْمَطْلُوبِ كَانَ صَحِيحًا مَعَ غَيْبَتِهِ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْقَاتِلِ وَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ.
وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ مِنْ الْفُضُولِيِّ لَا يَمَسُّ الْمَطْلُوبَ فَإِنَّ الطَّالِبَ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِعِوَضٍ يَلْزَمُهُ الْمُتَوَسِّطُ وَقَدْ صَحَّ الْتِزَامٌ مِنْ الْمُتَوَسِّطِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ فِي مَالِهِ فَغَيْبَةُ الْمَطْلُوبِ لَا تَمْنَعُ صِحَّتَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ شَرَطَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ وَضَمِنَ الْأَجْنَبِيُّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ مَعَ غَيْبَةِ الْمَرْأَةِ وَيَجِبُ الْمَالُ عَلَى الضَّامِنِ.
وَإِذَا صَالَحَ الرَّجُلُ عَنْ صُلْحٍ أَوْ بَاعَ بَيْعًا أَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الطَّالِبَ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ ذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا أَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهُ أَكْرَهَهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَقْبَلُ بَيِّنَتَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَرُدُّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ إكْرَاهًا فِي مَوْضِعِهِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَهَذِهِ تَنْبَنِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْإِكْرَاهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ السُّلْطَانِ فَإِكْرَاهُ الرَّعِيَّةِ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ وَعِنْدَهُمَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ مِمَّنْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَ بِهِ سُلْطَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ فَيَقُولَا الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ غَائِبًا أَوْ أَكْرَهَ مَنْ عَامَلَهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ نُفُوذُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ إلَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا إنَّمَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَذَا إذَا كَانَ فِي مَوْضِعِهِ بِأَنْ كَانَ يَتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهَ مِنْ مِثْلِهِ لَهُ.
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ السَّبَبَ الْمُبْطِلَ لِلْعَقْدِ أَوْ لِلدَّفْعِ لِصِفَةِ اللُّزُومِ بِالْبَيِّنَةِ وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخَصْمِ وَلَوْ سَاعَدَهُ الْخَصْمُ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَ الصُّلْحُ وَالْبَيْعُ فَكَذَلِكَ إذَا أُثْبِتَ بِالْبَيِّنَةِ.
وَإِذَا اخْتَصَمَ رَجُلَانِ عِنْدَ الْقَاضِي فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِحَقِّ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَا قَامَا مِنْ عِنْدِهِ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِإِقْرَارِهِ وَهُوَ يَجْحَدُ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ لَا إقْرَارَ لِمَنْ خَاصَمَ إلَّا عِنْدِي وَلَا صُلْحَ لَهُمْ إلَّا عِنْدِي وَكَانَ لَا يَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالصُّلْحِ بَعْدَ مَا قَامَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ سَمِعَ إنْكَارَ الْخَصْمِ وَصَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ عِلْمُ يَقِينٍ فَكَيْفَ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَعْلَمُ يَقِينًا بِخِلَافِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُمَا لَمَّا خَاصَمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَدْ ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا بِمَا هُوَ مُوجَبُ الشَّرْعِ وَهَذَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَفِي الصُّلْحِ وَالْإِقْرَارِ مِنْ الْخَصْمِ إبْطَالُ هَذِهِ الْوِلَايَةِ لَهُ فَلَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا فَهَذَا أَوْلَى.
وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْخَصْمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ خَصْمِهِ أَوْ عَلَى الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ مَقْبُولَةً فَكَذَلِكَ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَ الْقَاضِي صُلْحَهُمَا أَوْ إقْرَارَ الْخَصْمِ يَقْضِي بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ قَوْلُهُ إذَا كَانَ عَلِمَ إنْكَارَهُ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ بَقَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِنْكَارِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْقَاضِي إلَّا بِطَرِيقِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَقَوْلُهُ: إنَّهُ ثَبَتَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْحُكْمِ بِمُوجَبِ الشَّرْعِ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، وَالصُّلْحُ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ مُوجَبِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ هَذَا رَاجِعًا إلَى تَقْرِيرِ وِلَايَةِ الْقَاضِي وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ الْقَاضِيَ أَنْ لَا يَقْضِيَ بِشَيْءٍ مِمَّا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَهَذَا الصُّلْحُ وَالْإِقْرَارُ مِمَّا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا بِمَنْزِلَةِ صُلْحٍ أَوْ إقْرَارٍ كَانَ مِنْهُمَا قَبْلَ الْخُصُومَةِ أَوْ يَجْعَلُ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا كَفَلَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى آخَرَ فَلَيْسَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصْلَ بِالْمَالِ مَا لَمْ يَتْوَ عَلَى الْكَفِيلِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ أَخَذَ بِهِ أَيَّهُمَا شَاءَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ أَنَّ الْكَفَالَةَ عِنْدَنَا لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ وَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَعِنْدَهُ مُطْلَقُ الْكَفَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَوَالَةِ فَإِنَّمَا يُطَالِبُ الْكَفِيلَ بِالْمَالِ وَلَا يُطَالِبُ الْأَصِيلَ مَا لَمْ يَتْوَ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فَحِينَئِذٍ يُطَالِبُ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْمَالِ لِمَكَانِ الشَّرْطِ وَبَعْدَ مَا طَالَبَ أَحَدَهُمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ إذَا اشْتَرَطَ هَذَا الشَّرْطَ ثُمَّ طَالَبَ أَحَدَهُمَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَجْعَلُ اخْتِيَارَهُ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا إبْرَاءً لِلْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ مَعَ صَاحِبِ الْمَغْصُوبِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يُؤَاخِذَهُمَا جَمِيعًا فَحِينَئِذٍ بَعْدَ مَا طَالَبَ أَحَدَهُمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَيْضًا وَقِيلَ هُوَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إنْ شَرَطَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ثُمَّ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْآخَرِ إلَّا أَنْ يُفْلِسَ هَذَا، أَوْ يَمُوتَ وَلَا يَتْرُكَ شَيْئًا وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ هُنَاكَ صَكًّا يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الشَّرَائِطِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ لِلتَّحَرُّزِ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ قَالَ: وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُجَوِّزُ الضَّمَانَ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ غَيْرِ مُسَمًّى كَقَوْلِهِ مَا كَانَ لَك عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ فَهُوَ عَلَيَّ أَوْ مَا قَضَى لَك الْقَاضِي عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَيَّ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَالَ بِعَقْدٍ مُعْتَمَدٍ تَمَامُ الرِّضَا فَمَعَ الْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِمَنْزِلَةِ الِالْتِزَامِ بِسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ وَبَيَانُ الْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ هُنَا أَنَّهُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ وَلَا جَهَالَةَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَلَكِنَّا نَقُولُ الْجَهَالَةُ هُنَا لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الِالْتِزَامِ وَلَكِنَّهَا جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ الطَّالِبَ لَا يُطَالِبُ الْكَفِيلَ إلَّا بِمَا ثَبَتَ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْحُجَّةِ أَوْ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ الِالْتِزَامُ بِالْكَفَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الِالْتِزَامِ بِالْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَابَلَةِ عِوَضٍ يَجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الطَّالِبِ وَجَهَالَةُ الْمُقِرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْكَفَالَةِ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ وَبَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِيهِ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا وَقَالَ: عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَ تَرَكَ الْأَصِيلُ شَيْئًا ضَمِنَ الْكَفِيلُ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ لِأَنَّ صِحَّةَ الضَّمَانِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ الْوَفَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَالَ خَلَفًا عَنْ الذِّمَّةِ فِي بَقَاءِ الْوَاجِبِ بِاعْتِبَارِهِ لِأَنَّ الْمَالَ مَحَلٌّ صَالِحٌ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ وَالْوُجُوبُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ بِقَدْرِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَرِكَةً خَلَفًا وَصِحَّةُ الْكَفَالَةِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ إلَّا بِقَدْرِ تَرِكَةِ الْأَصِيلِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى كَفَالَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ جَائِزَةٌ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ صَنِيعِ التِّجَارَةِ وَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَلِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِعِوَضٍ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا يُؤَدِّي وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ مِنْ أَهْلِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الِالْتِزَامِ وَقَدْ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكَفَالَةَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ فَقَالَ إذَا كَفَلَ أَحَدُ الْمُتَعَاوِضَيْنِ بِمَالٍ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ فَلَمَّا جُعِلَ فِي حَقِّ الْمُتَعَاوِضَيْنِ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا تَصِحُّ كَفَالَةُ الْمَأْذُونِ فِي حَالَةِ رِقِّهِ لِأَنَّ الْحَاجِزَ وَهُوَ الرِّقُّ قَائِمٌ وَإِنَّمَا أَصْلُ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ فِيمَا هُوَ تِجَارَةٌ أَوْ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَالْكَفَالَةُ لَيْسَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ التُّجَّارَ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْكَفَالَةِ غَايَةَ التَّحَرُّزِ لِهَذَا قِيلَ: الْكَفَالَةُ أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ وَآخِرُهَا غَرَامَةٌ، فَبَقِيَ مَحْجُورًا عَنْهُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْإِذْنِ ثُمَّ الْكَفَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَاضِ فَإِنَّهُ تَبَرُّعٌ فِي الِالْتِزَامِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْأَدَاءِ يَرْجِعُ كَمَا أَنَّ الْمُقْرِضَ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْمَالِ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَاضَ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُتَعَاوِضَيْنِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فِي الِابْتِدَاءِ تَبَرُّعٌ وَلَكِنْ فِي الِانْتِهَاءِ مُعَاوَضَةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِهِ مِنْ الْمُعَاوِضِ الَّذِي بَاشَرَهُ وَإِنْ كَانَ تَبَرُّعًا فَإِذَا صَحَّ مِنْهُ انْقَلَبَ مُعَاوَضَةً فَيُطَالِبُ بِهِ الشَّرِيكَ أَمَّا هُنَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ تَبَرُّعًا لَا يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَا يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةً.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا أَفْلَسَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ رَجَعَ الطَّالِبُ عَلَى الْمُحِيلِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى التَّفْلِيسُ وَالْحَجْرُ يَتَحَقَّقُ وَقَوْلُهُ فِيهِ كَقَوْلِهِمَا أَوْ أَبْلَغُ مِنْهُ لِأَنَّ عِنْدَهُ بَعْدَ التَّفْلِيسِ وَالْحَبْسِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمَدْيُونِ فِي عَبْدِهِ فَيَتَحَقَّقُ بِالتَّوَى بِالتَّفْلِيسِ عَلَى قَوْلِهِ.
وَإِذَا تَوَى الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا تَوًى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ».
فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ التَّوَى لَا يَتَحَقَّقُ لِأَنَّ التَّوَى أَنْ يَهْلِكَ عَيْنُ الشَّيْءِ أَوْ مَحَلُّهُ الَّذِي كَانَ قَائِمًا بِهِ وَالدَّيْنُ لَا يُتَصَوَّرُ هَلَاكُهُ حَقِيقَةً وَمَحَلُّهُ قَائِمٌ بَعْدَ الْإِفْلَاسِ بِبَقَاءِ الذِّمَّةِ مَحَلًّا صَالِحًا لِالْتِزَامِ الْحُقُوقِ وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ الِاسْتِيفَاءُ بِالْإِفْلَاسِ وَهَذَا تَأْخِيرٌ يَزُولُ سَاعَةً فَسَاعَةً لِأَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ فَإِنَّ مَحَلَّ الدَّيْنِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِالْتِزَامِ الْحُقُوقِ وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ الِاسْتِيفَاءُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِخِلَافِ مَا لَوْ جَحَدَ وَحَلَفَ لِأَنَّ الدَّيْنَ هُنَاكَ صَارَ تَاوِيًا حُكْمًا حَتَّى انْقَطَعَ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَيْهِ عَنْ بَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارِ الْخَصْمِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ بِمَا وُكِّلَ بِهِ إذَا مَرِضَ أَوْ أَرَادَ سَفَرًا فَأَمَّا إذَا كَانَ حَاضِرًا صَحِيحًا فَلَا وَعِنْدَنَا بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُ مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا صَحِيحًا أَوْ غَائِبًا أَوْ مَرِيضًا وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْوَكِيلَ بِقَبُولِ الْوَكَالَةِ قَدْ الْتَزَمَ أَدَاءَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ وَتَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ؛ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُنِيبَ غَيْرَهُ مَنَابَهُ فِي ذَلِكَ إلَّا فِي حَالَةِ الْعُذْرِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدِ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ بِالثَّابِتِ وَهُوَ شَاهِدُ الْفَرْعِ إلَّا عِنْدَ السَّفَرِ أَوْ الْمَرَضِ فَهَذَا.
مِثْلُهُ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُوَكِّلُ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ رَأْيَ غَيْرِهِ مَقَامَ رَأْيِ نَفْسِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرَّأْيِ وَمَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ لَا يَحْصُلُ بِرَأْيِ غَيْرِهِ ثُمَّ الْعُذْرُ هُنَا لَا يَتَحَقَّقُ بِسَفَرِهِ وَمَرَضِهِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَادِرٌ عَلَى النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِمُبَاشَرَتِهِ بِخِلَافِ شَاهِدِ الْأَصْلِ فَإِنَّ الْعُذْرَ هُنَاكَ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْيَاءِ حَقِّهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ بِالْحُضُورِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْعُذْرِ فَلِهَذَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِهِ.
فَأَمَّا إذَا قَالَ مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَقَدْ رَضِيَ هُنَاكَ بِرَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ رَأْيِهِ وَلَيْسَ الْوَكِيلُ فِي هَذَا كَالْوَصِيِّ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي وَثَبَتَ لَهُ مِنْ الْوِلَايَةِ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوصِي فَيَمْلِكُ بِوِلَايَتِهِ التَّوْكِيلَ وَالْإِيصَالَ إلَى الْغَيْرِ كَمَا كَانَ يَمْلِكُ الْمُوصِي وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ حَالَةُ الْعُذْرِ وَغَيْرُ حَالَةِ الْعُذْرِ.
وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُجَوِّزُ إقْرَارَ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى تُقْبَلُ الْوَكَالَةُ فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ وَعِنْدَنَا لَا تُقْبَلُ الْوَكَالَةُ فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ عَلَى مَعْنًى لَا يُسْتَوْفَى فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ هُوَ لِكَوْنِ الْقِصَاصِ مَحْضَ حَقِّ الْعَبْدِ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ بِاسْتِيفَاءِ سَائِرِ حُقُوقِهِ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَالْحَدُّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يُقِيمُهُمَا الْإِمَامُ عِنْدَ ظُهُورِ السَّبَبِ عِنْدَهُ وَقَدْ ظَهَرَ بِخُصُومَةِ الْوَكِيلِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ اسْتَوْفَى فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ كَانَ اسْتِيفَاءً مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ لِأَنَّهُ يَتَوَهَّمُ الْعَفْوَ عَنْ الْمُوَكِّلِ فِي الْقِصَاصِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ الْمَقْذُوفِ بِالْحَدِّ وَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ الَّتِي ثَبَتَتْ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذَا التَّوْكِيلِ الثَّبَاتَ فَقَدْ بَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ.
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ وَلِلْمَطْلُوبِ عَلَى الطَّالِبِ مِثْلُهُ فَهُوَ قِصَاصٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَكُونُ قِصَاصًا حَتَّى يَتَرَاضَيَا بِهِ اعْتِبَارًا لِلدَّيْنِ الَّذِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ بِالْعَيْنِ الَّتِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ فِي يَدِهِ مِثْلُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا بِالْآخَرِ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُطَالِبَ صَاحِبَهُ بِمِلْكِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ صَحِيحٌ وَمُبَادَلَةَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ بَاطِلٌ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَوْفِيًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَيْنُ حَقِّهِ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِ حَقُّ غَيْرِهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مُطَالَبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِدَرَاهِمِهِ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ لِأَنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْ صَاحِبِهِ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ سَاعَتِهِ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَهُ وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِمَا لَا يُفِيدُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَيْنِ لِأَنَّ فِي الْأَعْيَانِ لِلنَّاسِ أَغْرَاضًا وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ الْغَرَضِ فِي الدَّيْنِ فَإِنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا فَلَا فَائِدَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ هُنَا لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ إذَا اسْتَوَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ التَّفَاوُتُ إذَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْجَوْدَةِ وَالْحُلُولِ وَلَا أَحَدٌ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَهُمَا وَمُبَادَلَةُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ إنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ فِي الْمَجْلِسِ وَهُنَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبْضِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ كَانَ جَائِزًا وَمُبَادَلَةُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ شَرْعًا وَإِنْ وُجِدَ التَّرَاضِي «لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ».
وَإِذَا كَتَبَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ صَكَّ حَقٍّ يُعَوَّضُ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَصْلَهُ مُضَارَبَةٌ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَقْبَلُ بَيِّنَتَهُ وَأَجْعَلُهُ مُضَارَبَةً كَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ فِي صَكِّ حَقٍّ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رِبًا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقْبَلُهَا مِنْهُ وَيَرُدُّهُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ وَالْقِيَاسُ مَا قُلْنَا لِأَنَّ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ يَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى وَبَعْدَ مَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ قَرْضًا لَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ أَنَّهُ مُضَارَبَةٌ لِأَنَّهُ مُنَاقَضٌ فِي ذَلِكَ وَبِدُونِ الدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ.
وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَالَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ لَا يَسْمَعُ دَعْوَاهُ أَنَّهُ رِبًا لِكَوْنِهِ مُنَاقَضًا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الرِّبَا لَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَبِدُونِ الدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَاسْتَحْسَنَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ وَجَدَ فِي ذَلِكَ عُرْفًا ظَاهِرًا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ الْقَرْضَ لِلِاحْتِيَاطِ وَإِنْ كَانُوا دَفَعُوا الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيُقِرُّونَ بِثَمَنِ الْمَتَاعِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمُعَامَلَةِ قَرْضًا وَالزِّيَادَةُ رِبًا شُرِطَ عَلَيْهِ فَلِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ قَالَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَهَذَا الْعُرْفُ يَدُلُّ عَلَى شَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ وَذَلِكَ دَلِيلُ قَبُولِ قَوْلِهِ مَعَ يَمِينِهِ لَا دَلِيلُ قَبُولِ بَيِّنَتِهِ وَبِالِاتِّفَاقِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا سَبَقَ مِنْ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَلَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ فِي صَكِّ حَقٍّ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْ الْمَبِيعَ فَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُصَدَّقُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ إنْ وَصَلَ صُدِّقَ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ إذَا فَصَلَ يُسْأَلُ الْمُقَرُّ لَهُ عَنْ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ إنِّي لَمْ أَقْبِضْ الْمَبِيعَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى سَوَاءٌ فَصَلَ أَمْ وَصَلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِأَنِّي لَمْ أَقْبِضْ الْمَبِيعَ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ حَتَّى يَأْتِيَ الطَّالِبُ بِبَيِّنَةٍ عَلَى قَبْضِ الْمَتَاعِ لِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُقِرُّ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ إقْدَامُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى قَبْضِهِ الْمَبِيعَ فَإِذَا قَالَ لَمْ أَقْبِضْ فَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ بِالْحَقِيقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الطَّالِبِ الْبَيِّنَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا فَثَمَنُهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ وَفِي إقْرَارِهِ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ أَقْبِضْ فَهُوَ مُنَاقَضٌ فِي كَلَامِهِ.
وَإِذَا شَهِدَتْ الشُّهُودُ عَلَى زِنًا قَدِيمٍ أَوْ سَرِقَةٍ قَدِيمَةٍ فَعَلَى قَوْلِنَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي ذَلِكَ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يُقَامُ الْحَدُّ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْحُدُودِ وَفِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَةِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَلَى ضَغَنٍ فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ.
وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي حَدِّ السَّكْرَانِ إنْ أُتِيَ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ سَكْرَانَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ هُوَ الشُّرْبُ إلَى غَايَةِ السُّكْرِ وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ وَإِنْ زَالَ مَا بِهِ مِنْ السُّكْرِ إلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِطَا بَقَاءَ الرَّائِحَةِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْحُدُودِ.
وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ شَهِدَ لَهُ بِهِ شَاهِدَانِ ثُمَّ شَهِدَ هُوَ وَآخَرُ عَلَى دَيْنٍ لِرَجُلٍ آخَرَ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ التَّرِكَةَ مَشْغُولَةٌ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَهِيَ كَالْمُسْتَحَقَّةِ لَهُمْ بِدَيْنِهِمْ فَهَذَا فِي مَعْنَى شَهَادَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِشَرِيكِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْغَرِيمُ يَتَضَرَّرُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ بِدُونِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَانَ هُوَ أَحَقَّ بِالتَّرِكَةِ وَالْآنَ يَثْبُتُ لِغَيْرِهِ الْمُزَاحَمَةُ مَعَهُ فِي التَّرِكَةِ وَفِي هَذَا ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِ إذَا كَانَ لِلشَّاهِدِ مَنْفَعَةٌ فِيهَا وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي شَهَادَتِهِ فَالتُّهْمَةُ لَا تَتَمَكَّنُ فِيهَا فَيَجِبُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَظَائِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوَصَايَا.
وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِالزِّنَا عِنْدَ غَيْرِ قَاضٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَشَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ الشُّهُودُ لَمْ يُحَدَّ عِنْدَنَا وَيُحَدُّ فِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا لِلْإِقْرَارِ بِالزِّنَا بِالْإِقْرَارِ بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ كَالْقَتْلِ وَالْقَذْفِ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَيُجْعَلُ الثَّابِتُ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ صَحِيحٌ فِي بَابِ الزِّنَا وَالْحُدُودِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
(أَلَا تَرَى) «أَنَّ مَاعِزًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا هَرَبَ ثُمَّ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ» وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعَلَ هَرَبَهُ دَلِيلَ رُجُوعِهِ عَنْ الْإِقْرَارِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرُّجُوعَ صَحِيحٌ هُنَا قُلْنَا الْبَيِّنَةُ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى مُنْكِرٍ وَإِنْكَارُهُ رُجُوعٌ عَمَّا سَبَقَ مِنْ الْإِقْرَارِ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّمَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارٍ بَاطِلٍ وَبِهِ فَارَقَ الْقَتْلَ وَالْقَذْفَ فَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِيهِمَا لَا يَكُونُ صَحِيحًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَدُ الْأَرْبَعِ وَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ وَكَمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ الَّتِي تَقُومُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَا يُقَامُ بِهَا الْحُدُودُ فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِهِ.
وَإِذَا شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّاهِدَ فَاسِقٌ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْبَلُ وَتُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ لِأَنَّ فِسْقَهُ لَوْ صَارَ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي بِخَبَرِ الْمُخْبِرِ رَدَّ شَهَادَتَهُ فَإِذَا صَارَ مَعْلُومًا لَهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْفِسْقَ مَانِعٌ مِنْ الْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الرِّقِّ وَكَوْنُهُ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِفِسْقِهِ.
وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ النَّفْيُ لَا الْإِثْبَاتُ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ وَبِهِ فَارَقَ الرِّقَّ وَإِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْبَيِّنَةَ تَقُومُ لِإِثْبَاتِ الرِّقِّ عَلَيْهِ وَلِإِثْبَاتِ فِعْلِ الْقَاضِي فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ثُمَّ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ حُكْمًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ صِفَةَ الْفِسْقِ لَيْسَتْ بِصِفَةٍ لَازِمَةٍ فَإِنَّ الْفَاسِقَ إذَا تَابَ لَا يَبْقَى فَاسِقًا فَالشَّاهِدُ لَا يَعْلَمُ بَقَاءَ هَذَا الْوَصْفِ فِيهِ عِنْدَ شَهَادَتِهِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَذَلِكَ يُطْلِقُ لَهُ الْخَبَرَ دُونَ الشَّهَادَةِ فَكَانَ مُحَارِفًا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ الرِّقِّ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُ فَيَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ إذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ سَبَبَهُ حَقِيقَةً وَلِأَنَّ الْفِسْقَ يَثْبُتُ بِأَسْبَابٍ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي بَعْضِهَا فَلَعَلَّ الشَّاهِدَ بِذَلِكَ يَعْتَمِدُ لِسَبَبٍ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ فِسْقٌ وَعِنْدَ الْقَاضِي لَيْسَ بِفِسْقٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ مُجَرَّدَ شَهَادَتِهِ أَنَّهُ فَاسِقٌ بِخِلَافِ الرِّقِّ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.
وَإِذَا سَافَرَ الْمُسْلِمُ فَحَضَرَهُ الْمَوْتُ وَأَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ إلَّا فِي الْوَصِيَّةِ وَلَا تُقْبَلُ فِي الْوَصِيَّةِ إلَّا فِي حَالَةِ السَّفَرِ وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أَيْ مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْقَبَائِلِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ ظَاهِرَةً فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ} وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ» كُلِّهَا وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْنَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ انْقِطَاعُ وِلَايَتِهِمْ عَنَّا وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي غَيْرِ حَالَةِ السَّفَرِ مَوْجُودٌ فِي حَالَةِ السَّفَرِ.
وَإِذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي شَهِدَا فِيهَا عَلَى عَمَلٍ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَصْبٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا وَلَا يُعَزَّرَانِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رُبَّمَا ضَرَبَهُمَا وَعَاقَبَهُمَا لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ فِي الشَّهَادَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا نَدْرِي أَيَّهُمَا الْكَاذِبُ مِنْهُمَا فَضَرْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبَثٌ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقَرُّرِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَجُوزَ الْإِقْدَامُ عَلَى ضَرْبِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَى فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يُؤَدَّبَانِ عَلَى ذَلِكَ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَعَلَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ الْغَالِطُ وَالْكَاذِبُ وَالشُّهُودُ صَادِقُونَ فِي شَهَادَتِهِمْ وَبِدُونِ تَقَرُّرِ السَّبَبِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْعُقُوبَةُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْمَلُ بِشَهَادَتِهِمْ لِتَكْذِيبِ الْمُدَّعِي إيَّاهُمْ.
وَإِذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ فِي الشَّاهِدِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْقَاضِي وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يُسْأَلُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الشُّهُودِ لِصِيَانَةِ قَضَائِهِ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ شَرْعًا مِنْ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْعَدَالَةُ ثَابِتَةٌ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ» فَيَعْتَمِدُ الْقَاضِي هَذَا الظَّاهِرَ مَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ فَإِذَا طَعَنَ اشْتَغَلَ بِالسُّؤَالِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الطَّاعِنِ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ أَيْضًا فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِفُصُولِهَا فِي أَدَبِ الْقَاضِي.
وَشَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يُجِيزُهَا فِي الْجِرَاحَاتِ وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَهُمْ فِي الْمَلَاعِبِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا فَإِنْ كَانُوا تَفَرَّقُوا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ الْعُدُولَ قَلَّ مَا يَحْضُرُونَ مَلَاعِبَ الصِّبْيَانِ فَكَانَتْ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إلَى قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَلَكِنَّ هَذَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا.
فَأَمَّا إذَا تَفَرَّقُوا وَعَادُوا إلَى بُيُوتِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُلَقَّنُونَ الْكَذِبَ هَذَا هُوَ الْعَادَةُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِذَلِكَ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا تَكُونُ لَهُمْ شَهَادَةٌ عَلَى الْبَالِغِينَ انْقِطَاعُ الْوِلَايَةِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى أَحَدٍ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَالضَّرُورَةُ الَّتِي اعْتَادُوهَا لَا تَتَحَقَّقُ فَإِنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَمْنَعَهُمْ مِنْ الِاجْتِمَاعِ لِلَّعِبِ فَتَنْدَفِعَ هَذِهِ الضَّرُورَةُ بِمَنْعِنَا إيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ.
وَلَا يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ مَعَ شُهُودِهِ عَلَى قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَكِنَّا لَا نَأْخُذُ بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي وَلِأَنَّ التَّقْسِيمَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ يَعْنِي الْبَيِّنَةَ وَالْيَمِينَ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي شُهُودٌ كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَا أَرُدُّ الْيَمِينَ فَإِنَّهُ لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا اتَّهَمْتَ الْمُدَّعِيَ رَدَدْتَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الدُّيُونِ لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِدَفْعِ التُّهْمَةِ بِهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْيَمِينُ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ لَا لِإِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ وَحَاجَةُ الْمُدَّعِي إلَى إثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَالْيَمِينُ لَا تَصْلُحُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُدَّعِي «لَيْسَ لَك إلَّا هَذَا شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ» فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي قَالَ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَحْلِفُ عَلَى الصُّلْحِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ أَيْضًا يَسْتَحْلِفُ عَلَى الصُّلْحِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعِيَ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ الْخِلَافُ أَوْ مُرَادُهُ أَنَّهُ كَانَ يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْمُدَّعِي فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ الْخِلَافُ لِأَنَّ عِنْدَنَا لَا يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ الْخِلَافُ لِأَنَّ عِنْدَنَا لَا يُسْتَحْلَفُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِ الْمُدَّعِي فَإِنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا فِيهِ فَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَ طَلَبِهِ أَوْ يَكُونُ مُرَادُهُ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْعِلْمِ فِي الصُّلْحِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ وَعِنْدَنَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى الثَّبَاتِ إذَا كَانَ يَدَّعِي عَلَيْهِ صُلْحًا بَاشَرَهُ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ عَلَى الثَّبَاتِ.
وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ امْرَأَةً وَوَلَدًا وَلَمْ يُقِرَّ بِحَبَلِ امْرَأَتِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَيَّامٍ وَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى وِلَادَتِهَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ فَلَمْ يَرِثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَهُوَ يَرِثُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْوِلَادَةِ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوْ فِرَاشٌ قَائِمٌ أَوْ إقْرَارٌ مِنْ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ وَعِنْدَ انْعِدَامِ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ بِدُونِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ كَقَوْلِهِمَا.
وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَبْدَانِ وُلِدَا فِي مِلْكِهِ مِنْ أَمَتِهِ فَأَقَرَّ فِي صِحَّتِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا ابْنُهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَنَا وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ.
وَكَذَلِكَ الْأَمَتَانِ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ يَثْبُتُ نَسَبُ أَحَدِهِمَا وَيُوَرِّثُهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ وَاحِدٍ وَيُوجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السِّعَايَةَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِأَنَّ النَّسَبَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الدَّفْعَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَالْإِقْرَارُ بِهِ لِلْمَجْهُولِ صَحِيحٌ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِ أَحَدِ عَبْدَيْهِ أَوْ طَلَاقِ أَحَدِ الْمَرْأَتَيْنِ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُعْتِقُ أَحَدَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِاتِّفَاقٍ وَثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَهُوَ إنَّمَا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ لَمْ تَثْبُتْ الْحُرِّيَّةُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ قَدْ يَخْتَلِطُ وَلَدُهُ بِوَلَدِ أَمَتِهِ فَلَا يُعْرَفُ وَلَدُهُ الَّذِي هُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ مِنْ وَلَدِ أَمَتِهِ فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ مَعَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ أَدَّى إلَى إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ النَّسَبُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي الْمَجْهُولِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِخَطَرِ الْبَيَانِ وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِسَائِرِ الْأَخْطَارِ فَكَذَلِكَ بِخَطَرِ الْبَيَانِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ إقْرَارَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ لِمَنْ هُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ أَنَّهُ ابْنُهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ لِمَنْ هُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ أَنَّهُ ابْنُهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْعِتْقِ تَمَيُّزُ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَهُوَ عِتْقٌ فِي الصِّحَّةِ فَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ.
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدِهِمَا ثَبَتَ الْعِتْقُ أَيْضًا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَيَرِثَانِ مِيرَاثَ ابْنٍ وَاحِدٍ لِثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا وَاعْتَبَرَا هَذَا بِوَلَدِ جَارِيَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ فَإِنَّهُمَا يَرِثَانِهِ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ نَقُولَ هُنَاكَ هُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا كَمَا قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وَهُنَا لَا نَقُولُ بِأَنَّ نَسَبَهُمَا ثَابِتٌ مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ نَسَبِ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَالْمِيرَاثُ لَا يَكُونُ قَبْلَ ثُبُوتِ النَّسَبِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي مَعْرُوفِ النَّسَبِ وَإِنْ ثَبَتَ الْعِتْقُ بِإِقْرَارِهِ لَا يَثْبُتُ الْمِيرَاثُ فَكَذَلِكَ هُنَا قَالَ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُوَرِّثُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ شَيْئًا وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ.
وَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ وَلِأَحَدِهِمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِلْآخَرِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَعِنْدَنَا هَذِهِ لَيْسَتْ بِمُفَاوَضَةٍ لَكِنَّهَا عَنَانٌ عَامٌّ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هِيَ مُفَاوَضَةٌ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُ اتِّفَاقٌ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُفَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةُ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَقُلْنَا لَمَّا انْعَدَمَ مَا هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ لَمْ تَكُنْ الشَّرِكَةُ مُفَاوَضَةً بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّهُ عَنَانٌ عَامٌّ فَكَأَنَّهُمَا بَاشَرَا شَرِكَةَ الْعَنَانِ وَلَقَّبَاهَا بِلَقَبٍ فَاسِدٍ وَهُوَ يَقُولُ قَصْدًا بِصَحِيحِ الْمُعَاوَضَةِ وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِمَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ أَحَدُهُمَا مُمَلَّكًا بَعْضَ رَأْسِ مَالِهِ مِنْ صَاحِبِهِ لِيَسْتَوِيَ بِهِ فَيُجْعَلَ كَأَنَّهُ وَهَبَ مِنْهُ بَعْضَ رَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يَحْصُلَ مَقْصُودُهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بِدَرْجِ التَّمَلُّكِ فِي كَلَامِهِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمَا وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ هِبَةُ الْمَتَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مِنْ الشَّرِيكِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَاهُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمُسَاوَاةِ فِي رَأْسِ الْمَالِ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ مِنْ دَقَائِقِ الْعُلُومِ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْخَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ اخْتِلَافٌ فَلَعَلَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَنَيَا هَذَا الْعَقْدَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى جَوَازَهُ مَعَ التَّفَاوُتِ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ شَيْءٍ مِنْ الْمِلْكِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالِاحْتِمَالِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ فِي عَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَالْمُكَاتَبَةُ جَائِزَةٌ وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْوَلَاءِ وَالْعِتْقِ فَإِذَا نَفَذَ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي مِلْكِهِ لَا يَجُوزُ لِلْآخَرِ أَنْ يُبْطِلَهُ كَحَقِيقَةِ الْإِعْتَاقِ وَالْكِتَابَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْتَمِدُ الْفَسْخَ وَيَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ فَكَمَا أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا بَاعَ نَصِيبَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُبْطِلَهُ فَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ وَعِنْدَنَا لِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّ الْكِتَابَةَ لِأَنَّ فِي إبْقَاءِ هَذَا الْعَقْدِ ضَرَرًا عَلَى شَرِيكِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي نَصِيبِهِ وَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ بَعْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ تَصَرُّفًا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا الْعَقْدُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَقُلْنَا يَدْفَعُ الشَّرِيكُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِفَسْخِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا كَسَرَ نَجْمًا أَوْ نَجْمَيْنِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَتَى عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَبِهِ فَارَقَ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلْفَسْخِ فَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ يَكُونُ بِالتَّضْمِينِ هُنَاكَ وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ فِي إبْقَاءِ الْبَيْعِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَإِذَا أَعْتَقَهُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ نَفَذَ عِتْقُهُ فِي نَصِيبِهِ عِنْدَنَا لِبَقَاءِ مِلْكِهِ فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ وَعِنْدَ أَبِي لَيْلَى لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ حَتَّى يَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ الْمُكَاتَبُ فَإِنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَتَقَ وَعَلَى الَّذِي كَاتَبَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِ وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لَهُ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ وَلَاءَهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَمْلِكُ الشَّرِيكُ إبْطَالَ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ كَمَا لَا يَمْلِكُهُ بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ عِنْدَهُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُجَزَّأُ فَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ عَتَقَ الْكُلَّ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ ضَامِنًا نِصْفَ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ إمَّا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ أَوْ لِأَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَى شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ نَفَذَ الْعِتْقُ مِنْ الْآخَرِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ وَهُوَ أَنَّ لِلْمُكَاتَبِ حَقَّ الْوَلَاءِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْكِتَابَةُ تُجَزَّأُ فَالْمُكَاتَبُ لَمْ يَصِرْ مُسْتَحِقًّا نَصِيبَ الشَّرِيكِ فَلِهَذَا نَفَذَ الْعِتْقُ مِنْ الشَّرِيكِ فِي نَصِيبِهِ وَيَسْعَى الْمُكَاتَبُ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ وَهَذَا الْخِيَارُ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعِتْقَ يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ.
وَلَوْ أَنَّ مَمْلُوكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ عِنْدَنَا وَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ يَثْبُتُ بِالتَّدْبِيرِ عِنْدَنَا حَتَّى يَمْتَنِعَ عَلَى الْمُدَبَّرِ بَيْعُ نَصِيبِهِ فَيَمْتَنِعُ عَلَى الشَّرِيكِ أَيْضًا بَيْعُ نَصِيبِهِ اعْتِبَارًا لِحَقِّ الْعِتْقِ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ وَلِابْنِ أَبِي لَيْلَى أَحَدُ الطَّرِيقَيْنِ أَمَّا أَنْ يُقَالَ التَّدْبِيرُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ وَلَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ فِي نَصِيبِ الْمُدَبَّرِ وَلَا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْ يَقُولُ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ وَهَذَا الْمَعْنَى وُجِدَ فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ خَاصَّةً فَلَا يَظْهَرُ الِاسْتِحْقَاقُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ وَلَكِنْ يُجْعَلُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ هَذَا كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ فَلَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ وَعَلَى هَذَا قَالَ إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ وَالتَّدْبِيرُ بَاطِلٌ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمُعْتِقِ التَّدْبِيرُ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ آخَرَ وَالْعِتْقُ عِنْدَهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِي جَمِيعِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ نُفُوذِ الْعِتْقِ بُطْلَانُ التَّدْبِيرِ فَيَضْمَنُ الْمُعْتِقُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ لَنَا أَنَّ بِالتَّدْبِيرِ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ كَمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِيلَادِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي الْعِتْقِ كَمَا أَنَّهُ إذَا نَفَذَ الِاسْتِيلَادُ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي نَصِيبِهِ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ إذَا نَفَذَ التَّدْبِيرُ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِالتَّدْبِيرِ صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهُ حَتَّى إذَا عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِهِ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْآخَرُ مِنْ إبْطَالِ هَذَا الْوَلَاءِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا وَرِثَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مَالًا؛ فَهُوَ لَهُ دُونَ شَرِيكِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ الَّذِي يَحْدُثُ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَهُ كَمَا لَوْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ عَقْدُ الْمُفَاوَضَةِ إنَّمَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَحْصُلُ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ وَكِيلًا لِصَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَهَذَا فِي الْإِرْثِ لَا يَتَحَقَّقُ ثُمَّ الْمِلْكُ بِالْمِيرَاثِ لَيْسَ بِحَادِثٍ فَإِنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ فَيَبْقَى لِلْوَارِثِ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوَرَّثِ وَسَبَبُ هَذِهِ الْخِلَافَةِ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ وَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تُوجِبُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَوْهُوبِ وَالْمَوْرُوثِ لَبَطَلَتْ فِي نَفْسِهَا لِأَنَّهَا تَصِيرُ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ شَرْعًا.
وَإِذَا كَانَ الْمَوْرُوثُ لِلْوَارِثِ خَاصَّةً فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ النُّقُودِ الَّتِي تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ لِوُجُودِ التَّفَاوُتِ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَالطَّارِئُ بَعْدَ الْعِتْقِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ.
وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ عَبْدًا وَلِلْعَبْدِ مَالٌ فَمَالُهُ لِمَوْلَاهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُكَاتَبُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْمَالُ لِلْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَعْقِدُ الْكِتَابَةَ بِقَصْدِ تَمْكِينِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ لِيُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِنْ الْكَسْبِ الْحَاصِلِ بِتَصَرُّفِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَّا بِرَأْسِ الْمَالِ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يُجْعَلُ كَأَنَّهُ شَرَطَ لَهُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ بِخِلَافِ بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ مَالُهُ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ نَظِيرُ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقُ يَدْخُلُ فِي الْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ وَإِنْ كَانَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِالذِّكْرِ وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْكَسْبِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ.
لَكِنَّا نَقُولُ: مَا اكْتَسَبَهُ قَبْلَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ آخَرَ لِلْمَوْلَى فِي يَدِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُكَاتَبُ بِمُطْلَقِ الْكِتَابَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْعَقْدِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا يُضَافُ إلَيْهِ الْعَقْدُ وَإِنَّمَا أُضِيفَ الْعَقْدُ هُنَا إلَى رَقَبَتِهِ دُونَ مَالِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَالَ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ يُمَكِّنُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَلَكِنْ يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ لِمَنَافِعِهِ لَا لِمَالِهِ وَبِعَقْدِ الْكِتَابَةِ يَصِيرُ هُوَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِ نَفْسِهِ عِنْدَنَا ثُمَّ يَجُوزُ فَسْخُ الْكِتَابَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي عِنْدَنَا كَمَا يَجُوزُ عَقْدُ الْكِتَابَةِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَكُونُ رَدُّ الْمُكَاتَبِ فِي الرِّقِّ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْعَجْزِ عِنْدَهُ أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ نَجْمَانِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ وَنِكَاحُهُ بَاطِلَانِ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَالرِّقَّ يُبْقِي الْوِلَايَةَ، وَعِنْدَنَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ وَلَا عَبْدَهُ وَلَكِنْ يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَبُطْلَانِ كَفَالَتِهِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَنْزِعُ وَلَكِنْ بِطَرِيقِ انْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمَالِ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَهُ وَلِهَذَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصْلِ، وَقِيَامُ الرِّقِّ فِيهِ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِالْتِزَامِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَهُ فَلِهَذَا قَالَ لَا تَنْفُذُ كَفَالَتُهُ بَعْدَ مَا عَتَقَ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالْهِبَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ فَإِنْ عَتَقَ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَإِنْ عَجَزَ فَرَدَّ رَقِيقًا بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ فِي كَسْبِهِ حُكْمُ مِلْكٍ وَحَقِيقَةُ الْمِلْكِ فِيهِ مَوْقُوفَةٌ فَإِنْ عَتَقَ تَمَّ لَهُ الْمِلْكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ الَّذِي بَاشَرَهُ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ فَإِنْ عَجَزَ تَمَّ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ لَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ.
فَأَمَّا عِنْدَنَا عِتْقُهُ وَهِبَتُهُ بَاطِلَانِ عَجَزَ أَوْ عَتَقَ لِأَنَّ نُفُوذَ هَذَا التَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَالرِّقِّ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ لِذَلِكَ.
وَأَمَّا كَفَالَتُهُ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً مَا لَمْ يَعْتِقْ فَإِذَا عَتَقَ نَفَذَ بِمَنْزِلَةِ كَفَالَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّ ذِمَّتَهُ خَالِصُ حَقِّهِ وَلَكِنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الرَّقِيقِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ وَذَلِكَ حَقُّ الْمَوْلَى فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ تَصَرُّفَهُ لَاقَى مَحَلًّا هُوَ حَقُّهُ كَانَ صَحِيحًا فِي حَقِّهِ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِمَالِيَّةِ الْمَوْلَى قُلْنَا ثَانِيَةً تُؤَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ إلَى حَالَةِ الْعِتْقِ وَلَوْ كَفَلَ إنْسَانٌ عَنْهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِمَوْلَاهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَسْتَدْعِي دَيْنًا صَحِيحًا وَقِيَامُ الرِّقِّ يَمْنَعُ وُجُوبَ دَيْنٍ صَحِيحٍ لِلْمَوْلَى عَلَى مَمْلُوكِهِ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ لِلْمُطَالَبَةِ وَالْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا تَقْوَى فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ.
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ بِالْأَدَاءِ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْكَفَالَةَ تُوجِبُ أَصْلَ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ فَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَبَرِّعُ مُؤَدِّيًا بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَنْ الْمُكَاتَبِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا بَدَلَ الْكِتَابَةِ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ لِلْمَوْلَى.
رَجُلٌ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ لَمْ يَعْتِقْ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَعْتِقُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَنَّ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عِنْدَنَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِحُصُولِ الْجَزَاءِ وَعِنْدَهُ لَا يُشْتَرَطُ وَيُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ بِالْأَهْلِيَّةِ فِي الْمُتَصَرِّفِ وَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ حَتَّى أَنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ جُنَّ الْحَالِفُ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَأْثِيرَ الْأَهْلِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ.
فَأَمَّا إذْ كَانَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلِأَنَّهُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ أَوْلَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ فَكَمَا أَنَّ تَنْجِيزَ الْعِتْقِ لَا يَصِحُّ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ فَكَذَلِكَ بِزَوَالِ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إلَّا أَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُنَجَّزِ بِذَلِكَ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَذَلِكَ الْكَلَامُ صَحَّ مِنْهُ فِي حَالِ إقَامَتِهِ وَالْجُنُونُ إنَّمَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ لِلتَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ إيقَاعًا فِي حَقِّهِ وَهَذَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا قَالَ إنْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَهَذَا التَّعْلِيقُ عِنْدَهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَ التَّعْلِيقِ مَوْجُودٌ وَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ هُنَا بِالْبَيْعِ فَيُتْرَكُ الْعِتْقُ بِالسَّبَبِ الَّذِي صَحَّ مِنْهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَيَصِيرُ بِهِ مُعَلِّقًا رَقَبَتَهُ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيُعْتَقُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ وَعِنْدَنَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ عِنْدَ نُزُولِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ إنَّمَا يَتَّصِلُ بِالْمَحَلِّ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ هُنَا هُوَ الْبَيْعُ فَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ فَقَدْ انْعَدَمَ الْمِلْكُ فِي الْمَحَلِّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَنْحَلُّ الْيَمِينُ وَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ بَلْ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ كَلَّمْتَ فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ كَلَّمَ فُلَانًا أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا عِنْدَنَا لَا يَقَعُ الثَّلَاثُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَقَعُ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مَكَان فَجَاوَزَ بِهَا الْمَكَانَ ثُمَّ عَطِبَتْ بَعْدُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا عِنْدَنَا وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْأَجْرُ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَجْرِ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ مَلَكَ الْمَضْمُونَ وَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرَ بِسَبَبِ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا انْتَهَى إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ نِهَايَتَهُ وَتَقَرَّرَ الْأَجَلُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ بِالْمُجَاوَزَةِ صَارَ غَاصِبًا ضَامِنًا فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَجْرُ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ثُمَّ غَصَبَهَا مِنْهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالضَّمَانِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ وَالْأَجْرُ إنَّمَا لَزِمَهُ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعَ اسْتَوْفَاهَا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَإِذَا أَدْرَكَ الرَّجُلُ الْإِمَامَ وَهُوَ رَاكِعٌ فَكَبَّرَ مَعَهُ وَلَمْ يَرْكَعْ حَتَّى رَفَعَ رَأْسَهُ فَعِنْدَنَا يَسْجُدُ مَعَهُ وَلَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَعْتَدُّ بِهَا لِأَنَّ حَالَةَ الرُّكُوعِ بِمَنْزِلَةِ حَالَةِ الْقِيَامِ فَإِنَّ الْقَائِمَ إنَّمَا يُفَارِقُ الْقَاعِدَ فِي اسْتِوَاءِ النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مِنْهُ دُونَ النِّصْفِ الْأَعْلَى وَالرَّاكِعُ فِي هَذَا وَالْمُنْتَصِفُ سَوَاءٌ وَلِهَذَا لَوْ رَكَعَ مَعَهُ كَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَكَانَ إدْرَاكُهُ إيَّاهُ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ وَإِدْرَاكُهُ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ سَوَاءً وَلَوْ أَدْرَكَهُ قَائِمًا ثُمَّ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهُ يُتَابِعُهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ شَرْطُ إدْرَاكِ الرَّكْعَةِ أَنْ يُشَارِكَ الْإِمَامَ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَامِ أَوْ فِيمَا هُوَ مُشَبَّهٌ بِالْقِيَامِ وَهُوَ الرُّكُوعُ حَتَّى يَكُونَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَإِذَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ هُوَ فَقَدْ انْعَدَمَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَامِ أَوْ فِيمَا هُوَ مُشَبَّهٌ بِالْقِيَامِ وَهُوَ الرُّكُوعُ فَإِذَا أَدْرَكَهُ قَائِمًا فَقَدْ شَارَكَهُ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَامِ وَكَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ.
وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فَهُوَ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيمَا هُوَ مُشَبَّهٌ بِالْقِيَامِ وَهُوَ الرُّكُوعُ حَتَّى يَكُونَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَإِذَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ فَقَدْ انْعَدَمَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَامِ وَفِيمَا هُوَ مُشْبِهٌ لِلْقِيَامِ فَلَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ كَمَا لَوْ أَدْرَكَ فِي السُّجُودِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَسْبُوقَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ قَبْلَ أَنْ يُشَارِكَ الْإِمَامَ فِيمَا أَدْرَكَ مَعَهُ وَذَلِكَ عَمَلٌ بِالْمَنْسُوخِ فَيَكُونُ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ فَلِهَذَا يَسْجُدُ وَلَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ.
فَأَمَّا إذَا رَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ فَهُوَ مُشَارِكٌ لِلْإِمَامِ فِي الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ جَمِيعًا أَمَّا فِي الرُّكُوعِ فَلَا يُشْكِلُ وَفِي الْقِيَامِ لِأَنَّ حَالَةَ الرُّكُوعِ كَحَالَةِ الْقِيَامِ فَبِهَذَا الْحَرْفِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ.
فَإِذَا أَهَلَّ الرَّجُلُ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَقَدِمَ مَكَّةَ فَقَضَاهَا فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَقْضِيَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَقْضِيَهَا لَا مِنْ وَقْتِ بِلَادِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهَا كَمَا فَاتَهُ ثُمَّ الْقَضَاءُ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ فَإِذَا كَانَ هُوَ فِي أَدَاءِ هَذِهِ الْعُمْرَةِ إنَّمَا أَحْرَمَ لَهَا مِنْ الْمِيقَاتِ فَكَذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنَّهَا لَمَّا حَاضَتْ بِسَرِفٍ بَعْدَمَا أَحْرَمَتْ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ارْفِضِي عُمْرَتَكِ وَاصْنَعِي جَمِيعَ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ ثُمَّ أَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِهَا الَّتِي فَاتَتْهَا» وَلِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ بِالشُّرُوعِ مُعْتَبَرٌ بِمَا يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ وَمَنْ نَذَرَ عُمْرَةً فَأَدَّاهَا مِنْ التَّنْعِيمِ خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ نَذْرِهِ وَلِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى مَكَّةَ بِالْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ فَيُجْعَلُ كَمَا لَوْ وَصَلَ إلَيْهَا بِإِحْرَامٍ صَحِيحٍ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ يَكُونُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْإِحْرَامِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، الْوَاجِبُ وَغَيْرُ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ هُنَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي حُكْمِ قَضَاءِ هَذِهِ الْعُمْرَةِ.
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ وَحِجَارَتِهِ إلَى الْحِلِّ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَكْرَهُ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَرَمِ يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ كَالنَّبَاتِ وَمَا لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَرَمِ كَالصَّيْدِ وَبِالْإِجْمَاعِ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْحِجَارَةِ وَالتُّرَابِ فِي الْحَرَمِ فَيَكُونُ لَهُ أَيْضًا إخْرَاجُ ذَلِكَ مِنْ الْحَرَمِ وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا شَاذٌّ فَقَدْ ظَهَرَ عَمَلُ النَّاسِ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُمْ تَعَارَفُوا إخْرَاجَ الْقُدُورِ مِنْ الْحَرَمِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ وَإِخْرَاجِ التُّرَابِ الَّذِي يَجْمَعُونَهُ مِنْ كَنْسِ سَطْحِ الْبَيْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَتَبَرَّكُوا بِذَلِكَ وَكُلُّ أَثَرٍ شَاذٍّ يَكُونُ عَمَلُ النَّاسِ ظَاهِرًا بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَجَّةً.
وَأَمَّا إذَا اقْتَتَلَ الْقَوْمُ فَأَحَلُّوا عَنْ قَتِيلٍ وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمْ أَصَابَهُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَبِيلَةِ الَّذِينَ اقْتَتَلُوا جَمِيعًا وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ ذَكَرْنَا هُنَا قَوْلَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الدِّيَاتِ.
وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ رَجُلًا ضَرَبَهُ بِعَصَا أَوْ حَجَرٍ أَوْ ضَرَبَهُ ضَرَبَاتٍ حَتَّى مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: لَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَإِذَا وَقَعَ مَوْقِعَ السِّلَاحِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الدِّيَاتِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُذْكَرَانِ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ الْكَبِيرِ وَالْعَصَا الْكَبِيرِ.
فَأَمَّا الْقَتْلُ بِالْعَصَا الصَّغِيرِ بِالضَّرْبِ بِالْمُوَالَاةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَهُنَا نَصٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ الطَّحَاوِيُّ إنَّمَا اعْتَمَدَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِيمَا أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمَا الْقَصْدُ إلَى الْقَتْلِ بِمَا لَا تُطِيقُ النَّفْسُ احْتِمَالَهُ وَالْعَصَا الصَّغِيرُ مَعَ الْمُوَالَاةِ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْعَصَا الْكَبِيرِ.
إذَا عَضَّ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ فَانْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فَمِ الْعَاضِّ فَقَلَعَ شَيْئًا مِنْ أَسْنَانِهِ فَعِنْدَنَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي السِّنِّ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى هُوَ ضَامِنٌ الْعَضَّةَ لِأَنَّهُ صَارَ قَالِعًا سِنَّهُ بِنَزْعِ الْيَدِ مِنْ فَمِهِ إلَّا أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ كَالْخَاطِئِ وَالْمُضْطَرِّ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ جَسَدِهِ لِيَدْفَعَ بِهِ أَذَاهُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ ضَامِنًا فَكَذَلِكَ إذَا نَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ فِيمَا صَنَعَ دَافِعٌ لِلْأَذَى غَيْرُ مُبَاشِرٍ لِلْجِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَصَدَ قَتْلَهُ فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَسَقَطَ فَمَاتَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ صَاحِبَ السِّنِّ هُوَ الْجَانِي بِعَضِّهِ يَدَ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ يُسْقِطُ سِنَّهُ بِنَزْعِ الْيَدِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا جَنَى عَلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ جَسَدِهِ لِأَنَّ الْمَعْضُوضَ يَدُهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِتِلْكَ الْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ بِنَزْعِ الْيَدِ مِنْ فَمِهِ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى جَسَدِهِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ كَانَ ضَامِنًا لِذَلِكَ وَهُنَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الْأَذَى إلَّا بِنَزْعِ الْيَدِ مِنْ فَمِهِ.
وَإِذَا قَالَ الْخَصْمُ لِلْقَاضِي لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ يَدْعُو الْمُدَّعِي بِشُهُودِهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا أَدَعُهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ لِأَنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى إيفَائِهِ بِالْحَبْسِ ثُمَّ شَرْطُ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْبِرَهُ الْقَاضِي حَتَّى يُجِيبَ بِالْإِقْرَارِ فَيَتَوَصَّلَ بِهِ الْمُدَّعِي إلَى حَقِّهِ أَوْ بِالْإِنْكَارِ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْإِنْكَارُ حَقُّ الْمُنْكِرِ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهِ الْمُدَّعِي عَنْ نَفْسِهِ وَيُثْبِتُ بِهِ حَقَّ نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ ثُمَّ السُّكُوتُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِنْكَارِ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ مَانِعٌ وَالسَّاكِتَ كَذَلِكَ وَالْإِنْكَارُ مُنَازَعَةٌ بِالْقَوْلِ وَفِي السُّكُوتِ مُنَازَعَةٌ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَمِنْ الْجَوَابِ بَعْدَ مَا طُولِبَ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَائِمًا مَقَامَ إنْكَارِهِ وَيَتَمَكَّنُ الْمُدَّعِي مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَسْتَحْلِفُهُ عَلَى حَقِّ الْمُدَّعِي وَيُجْبِرُهُ أَنَّهُ يُلْزِمُهُ الْقَضَاءَ إنْ لَمْ يَحْلِفْ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَإِنْ حَلَفَ دَعَا الْمُدَّعِي شُهُودَهُ فَهُمَا يَجْعَلَانِ سُكُوتَهُ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ إنْكَارٍ إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي فَإِنْ زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّ لَهُ شُهُودًا عَلَى حَقِّهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِحْلَافِ إذَا قَالَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي.
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَا يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِحْلَافِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُدَّعِي «أَلَكَ بَيِّنَةٌ قَالَ لَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذًا لَك يَمِينُهُ» وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُشْتَغَلُ بِالِاسْتِحْلَافِ فِي مَوْضِعٍ يَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ بِالْيَمِينِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْمُنَازَعَةُ لَا تَنْقَطِعُ بِالِاسْتِحْلَافِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَهُ فَلَيْسَ فِي الِاشْتِغَالِ بِالِاسْتِحْلَافِ هُنَا فَائِدَةُ قَطْعِ الْخُصُومَةِ وَهُمَا يَقُولَانِ الْبَيِّنَةُ وَالْيَمِينُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْمُدَّعِي فَلَهُ فِي الِاسْتِحْلَافِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ وَهُوَ وُصُولُهُ إلَى حَقِّهِ فِي أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْخَصْمَ لَا يَحْلِفُ كَاذِبًا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَهُ بِذَلِكَ وَعَلَى الْقَاضِي إجَابَتُهُ إلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَسْأَلُهُ الْجَوَابَ فِي الِابْتِدَاءِ رَجَاءَ أَنْ يُقِرَّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ رَجَاءَ أَنْ يَنْكُلَ عَنْ الْيَمِينِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.
وَإِذَا أَنْكَرَ الْخَصْمُ الدَّعْوَى ثُمَّ جَاءَ بِالشُّهُودِ عَلَى الْحَرَجِ مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَقْبَلُهُ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَدَّعِيَ قِبَلَهُ مَالًا فَيَقُولَ مَا لَهُ قِبَلِي شَيْءٌ ثُمَّ يُقِيمُ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَالِهِ وَيُقِيمُ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ فَابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ هُوَ مُنَاقَضٌ فِي دَعْوَاهُ الْإِيفَاءَ بَعْدَ إنْكَارِهِ أَصْلَ الْمَالِ خُصُوصًا إذَا قَالَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ سَاقِطٌ، وَقَبُولُ الْبَيِّنَةِ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ وَمَعَ التَّنَاقُضِ لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى.
.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُهُ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِيفَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنَّا نَقُولُ دَعْوَاهُ الْإِيفَاءَ بَعْدَ جُحُودِ أَصْلِ الْمَالِ دَعْوَى صَحِيحَةٌ إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَطُّ لَكِنَّهُ ادَّعَى مَرَّةً هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ وَاسْتَوْفَى الْمَالَ بِهَا فَإِذَا كَانَتْ الدَّعْوَى صَحِيحَةً بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنْ التَّوَثُّقِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إثْبَاتِهَا بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُهُ لِأَنَّ مَعَ ذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْإِنْكَارِ مُتَعَذِّرُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ كَلَامَيْهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا.
وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ قِبَلَ رَجُلٍ دَعْوَى وَقَالَ: عِنْدِي مِنْهَا الْمَخْرَجُ فَلَيْسَ هَذَا بِإِقْرَارٍ مِنْهُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ إقْرَارٌ لِأَنَّ الْمَخْرَجَ مِنْهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ أَوْفَيْتُهَا إيَّاهُ أَوْ أَبْرَأَنِي مِنْهَا سَوَاءً وَذَاكَ إقْرَارٌ بِأَصْلِ الْمَالِ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ ادَّعَى الْمَخْرَجَ مِنْ دَعْوَاهُ لَا مِنْ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالْمَالِ صَرِيحًا وَلَا دَلَالَةً وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَبْرَأَنِي مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى لَا يَكُونُ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالْمَالِ ثُمَّ الْمَخْرَجُ مِنْ الدَّعْوَى بِبَيَانِ وَجْهِ الْفَسَادِ فِيهِ وَوَجْهُ الْفَسَادِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَنَّهُ مَا كَانَ وَاجِبًا قَطُّ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْمُسْقِطِ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَجِبُ الْمَالُ.
وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ عِنْدَ الْقَاضِي بِشَيْءٍ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَلَمْ يُثْبِتْهُ فِي دِيوَانِهِ ثُمَّ خُوصِمَ إلَيْهِ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَعِنْدَنَا الْقَاضِي يَقْضِي بِهِ إذَا كَانَ يَذْكُرُهُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَقْضِي بِذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا حَتَّى يُثْبِتَهُ فِي دِيوَانِهِ وَالْقِيَاسُ مَا قُلْنَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ سَمِعَ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ لَوْ طَلَبَ الْخَصْمُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا مَضَى عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ إذَا كَانَ الْقَاضِي يَذْكُرُ ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْإِثْبَاتِ فِي دِيوَانِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَإِذَا كَانَ ذَاكِرًا فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ الْقَاضِي لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ رُبَّمَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلِهَذَا يُثْبِتُهُ فِي دِيوَانِهِ لِيَرْجِعَ إلَيْهِ فَيَنْبَغِي لَهُ الشُّهُودُ فَإِذَا لَمْ يُثْبِتْهُ فِي دِيوَانِهِ لَوْ قَضَى بِهِ كَانَ قَضَاءً مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ وَرُبَّمَا يُنْسَبُ بِهِ إلَى الْمِيلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَقْضِيَ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ ذَاكِرًا حَتَّى يُثْبِتَهُ فِي دِيوَانِهِ.
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ لَسْتَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَأُمُّهُ أَمَةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَبُوهُ مُسْلِمٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ قَوْلَهُ لِغَيْرِهِ لَسْتَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ يَكُونُ قَذْفًا لِأُمِّهِ عِنْدَنَا فَإِذَا كَانَتْ أُمُّهُ أَمَةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً فَهِيَ غَيْرُ مُحْصَنَةٍ وَقَذْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى هَذَا قَذْفٌ لَهُ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِكَوْنِهِ وَلَدَ الزِّنَا كَمَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْفَاهُ مِنْ أَبِيهِ يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ وَهُوَ مُحْصَنٌ فِي نَفْسِهِ فَعَلَى قَاذِفِهِ الْحَدُّ.
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ وَقَدْ مَاتَ أَبَوَاهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يَتَدَاخَلُ وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ حَدٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ مَعْنَى الزَّجْرِ لِلْقَاذِفِ وَدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَضْرِبُ حَدَّيْنِ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْمُغَلَّبُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْحُدُودِ وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهَا: إنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِيهَا فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ فَإِنَّ مَعْتُوهَةً كَانَتْ بِالْكُوفَةِ آذَاهَا رَجُلٌ فَقَالَتْ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ فَأَتَى بِهَا إلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَاعْتَرَفَتْ فَأَقَامَ عَلَيْهَا حَدَّيْنِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِأَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ إنَّهُ أَخْطَأَ فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ بَنَى الْحُكْمَ عَلَى إقْرَارِ الْمَعْتُوهَةِ وَإِقْرَارُهَا هَدَرٌ وَأَلْزَمَهَا الْحَدَّ وَالْمَعْتُوهَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ وَأَقَامَ عَلَيْهَا حَدَّيْنِ وَمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَأَقَامَ حَدَّيْنِ مَعًا وَمَنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ حَدَّانِ لَا يُوَالِي بَيْنَهُمَا وَلَكِنْ يَضْرِبُ أَحَدَهُمَا ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَبْرَأَ ثُمَّ يُقَامُ الْآخَرُ وَأَقَامَ الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ وَضَرَبَهَا قَائِمَةً وَإِنَّمَا تُضْرَبُ الْمَرْأَةُ قَاعِدَةً وَضَرَبَهَا لَا بِحَضْرَةِ وَلِيِّهَا وَإِنَّمَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَرْأَةِ بِحَضْرَةِ وَلِيِّهَا حَتَّى إذَا انْكَشَفَ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهَا فِي اضْطِرَابِهَا سَتَرَ الْوَلِيُّ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَانْتَشَرَ بِالْكُوفَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ.
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ وَأَرَادَ الطَّلَاقَ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هِيَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا لِأَنَّهُ نَفَى حَاجَتَهُ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ إذَا صَارَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ وَأَمَّا مَا دَامَتْ مُحَلَّلَةً فِي حَقِّهِ فَلَهُ فِيهَا حَاجَةٌ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا لِأَنَّ النِّسَاءَ خُلِقْنَ لِحَوَائِجِ الرِّجَالِ إلَيْهِنَّ فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ أَنْتِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ سَوَاءً.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَوْلُهُ لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا أَشْتَهِيكِ وَلَا أُرِيدُكِ وَلَا أَهْوَاكِ وَلَا أُحِبُّكِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ، وَالنِّيَّةُ مَتَى تَجَرَّدَتْ عَنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ كَانَ بَاطِلًا وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرْغَبْهَا رَغْبَةً فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي إلَى النِّسَاءِ» الْحَدِيثَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ الطَّلَاقُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ ذَلِكَ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ غَائِبٌ لَا يَدْرِي أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ أَوْ فُلَانٌ مَيِّتٌ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هِيَ طَالِقٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَشِيئَةُ فُلَانٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَبْقَى أَصْلُ الْإِيقَاعِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ لَا يَكُونُ لَهُ تَحْقِيقًا لِلنَّفْيِ فَيَخْرُجُ بِهِ كَلَامُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يُخْرِجُ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا إلَى أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ يُخْرِجُ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا إلَى أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ وَإِذَا كَانَ مِمَّا لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ يَخْرُجُ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا أَصْلًا.
وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَقَالَ مَوْلَاهُ طَلِّقْهَا فَهَذَا لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلنِّكَاحِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى هُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَلَكِنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ طَلِّقْهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فَارِقْهَا أَوْ دَعْهَا أَوْ اُتْرُكْهَا أَوْ خَلِّ سَبِيلَهَا وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلنِّكَاحِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِطْلَاقِ الْإِرْسَالِ وَفِي إجَازَةِ النِّكَاحِ إثْبَاتُ الْقَيْدِ فَالْأَمْرُ بِالْإِرْسَالِ لَا يَكُونُ إثْبَاتًا لِلْقَيْدِ مِنْهُ.
وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي صِحَّتِهِ فَجَحَدَ ذَلِكَ الزَّوْجُ وَادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ بَعْدَ أَنْ اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْهَا بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ وَلِأَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ وَهُوَ انْتِهَاءُ النِّكَاحِ بِالْوَفَاةِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَهَا الْمِيرَاثُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا حَلَفَ وَقَضَى الْقَاضِي بِقِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا كَانَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا مِنْهُ لَهَا فِي ذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَالْمُقِرُّ مَتَى صَارَ مُكَذِّبًا شَرْعًا فِي إقْرَارِهِ يَبْطُلُ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَلِهَذَا كَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بَعْدَ مَوْتِهِ إقْرَارًا مُسْتَقْبَلًا أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَكِنَّا نَقُولُ الْقَاضِي بَعْدَ يَمِينِ الزَّوْجِ لَا يَقْضِي بِالنِّكَاحِ وَلَا يُبْطِلُ الطَّلَاقَ الْوَاقِعَ وَلَكِنْ يَمْنَعُهَا مِنْ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَيَبْقَى مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ فَلَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الْحُكْمُ تَكْذِيبَهَا فِي الدَّعْوَى.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْإِقْرَارُ السَّابِقُ مِنْهَا وَالْمَوْجُودُ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءً.
وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ إنْ ضَمَمْتُ إلَيْكِ أُخْرَى فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أُخْرَى ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ هَذِهِ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى تَطْلُقُ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْيَمِينُ انْعَقَدَ صَحِيحًا فِي الْمِلْكِ وَالشَّرْطُ وُجِدَ فِي الْمِلْكِ أَيْضًا لِأَنَّ الشَّرْطَ ضَمَّ امْرَأَةً أُخْرَى إلَيْهَا وَهَذَا الضَّمُّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا اجْتَمَعَتَا فِي نِكَاحِهِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ بِهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَوْلُهُ إنْ ضَمَمْتُ إلَيْكِ امْرَأَةً أُخْرَى بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ وَهَذَا لِأَنَّ ضَمَّ غَيْرِهَا إلَيْهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا تَزَوَّجَ الْأُخْرَى وَهِيَ فِي نِكَاحِهِ.
فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ الْأُخْرَى بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَإِنَّمَا ضَمَّهَا هِيَ إلَى الْأُخْرَى.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ ضَمَّ الْأَمَةِ إلَى الْحُرَّةِ فِي النِّكَاحِ وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً بَقِيَ نِكَاحُ الْأَمَةِ صَحِيحًا بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَ حُرَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَمَةً.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَدَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَيْضًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَاسْتَثْنَى؛ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَوْصُولَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} وَلَمْ يَصْبِرْ وَلَمْ يُعَاتَبْ عَلَى ذَلِكَ وَالْوَعْدُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي الْأَيْمَانِ.
وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ يَقُلْ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقَعُ الطَّلَاقُ هُنَا.
وَكَذَلِكَ الْعَتَاقُ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يَعْمَلُ عِنْدَهُ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَبِالْعَتَاقِ.
وَقَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ حُرَّةٌ لَيْسَ بِيَمِينٍ ثُمَّ قَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا إنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ وَلَا يُرَادُ التَّعْلِيقُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ حُرَّةٌ ذِكْرُ وَصْفٍ فَيَلِيقُ بِهِ مَعْنَى التَّحْقِيقِ وَلَا يَلِيقُ بِهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَأْثِيرُهُ فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً وَالْإِيقَاعُ فِي هَذَا وَالتَّعْلِيقُ سَوَاءٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بَأْسَ بِنَثْرِ السُّكَّرِ وَالْجَوْزِ اللَّوْزِ فِي الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ وَأَخَذَ ذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَكَ أَهْلُهُ فِيهِ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ وَبِهِ نَأْخُذُ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَكْرَهُ نَثْرَ ذَلِكَ وَأَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَالْقِيَاسُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: هَذَا تَمْلِيكٌ مِنْ الْمَجْهُولِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَنْ يَأْخُذُ وَأَيُّ مِقْدَارٍ يَأْخُذُ وَالتَّمْلِيكُ مِنْ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ.
وَإِذَا بَطَلَ التَّمْلِيكُ كَانَ النَّثْرُ تَضْيِيعًا لِلْمَالِ وَلَكِنْ تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ بِمَا رَوَيْنَا فِيهِ مِنْ الْآثَارِ، وَفِي التَّعَامُلِ الظَّاهِرِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ مِنْ أَحَدٍ أَنَّهُ تَحَرَّزَ عَنْ نَثْرِ ذَلِكَ أَوْ عَنْ تَحَرُّزِ أَخْذِهِ وَفِي الْأَخْذِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فِي هَذَا إيقَاعُ النَّاسِ فِي الْحَرَجِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَرْكِ الْعُسْرِ لِلْيُسْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} وَعَلَى هَذَا قُلْنَا لَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ مِنْ مَاءِ السِّقَايَةِ فَقَدْ يَكُونُ الْوَاضِعُ عِنْدَ الْوَضْعِ آذِنًا لِلنَّاسِ بِالتَّنَاوُلِ وَلَا بَأْسَ بِالتَّنَاوُلِ مِمَّا لَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ فِيهِ الشُّحُّ وَالظِّنَّةُ كَالثَّوْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ غَرَسَ الشَّجَرَةَ عَلَى ضِفَّةِ نَهْرٍ فِي الطَّرِيقِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الْإِصَابَةِ مِنْ ثَمَرِهَا فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ بَيْنَ النَّاسِ فَيَجُوزُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الظَّاهِرِ وَكَذَلِكَ الْتِقَاطُ النَّوَى وَقُشُورِ الرُّمَّانِ وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ قَالَ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَكْرَهُ النَّبِيذَ فِي الْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي الْبَابِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِوُرُودِ النَّسْخِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الشُّرْبِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ فَاشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ وَلَا تَشْرَبُوا سُكْرًا» وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ فَلِثُبُوتِ النَّسْخِ قُلْنَا: لَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ فِي هَذِهِ الْأَوَانِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.