فصل: باب الإكراه في الوكالة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.باب الإكراه في الوكالة:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَلَوْ أَنَّ لِصًّا أَكْرَهَ رَجُلًا بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يُوَكِّلَ رَجُلًا بِعِتْقِ عَبْدٍ لَهُ، أَوْ بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ جَازَ التَّوْكِيلُ، وَنَفَذَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ مُبَاشَرَةِ الْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِهِمَا أَيْضًا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ مُعَبِّرٌ، فَعِبَارَتُهُ كَعِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ، وَلَكِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْإِيقَاعِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي جَعْلِ الْأَمْرِ فِي يَدِ الْغَيْرِ عَنْ إكْرَاهٍ، فَالتَّوْكِيلُ قِيَاسُهُ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَكْرَهَهُ عَلَى دَفْعِهِ إلَيْهِ حَتَّى يَبِيعَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ، وَأَخَذَ الثَّمَنَ، وَدَفَعَ الْعَبْدَ إلَى الْمُشْتَرِي، فَهَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، وَالْوَكِيلُ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ مُكْرَهَيْنِ، فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ طَائِعًا بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ طَائِعًا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ؛ لِأَنَّ إكْرَاهَهُ عَلَى التَّوْكِيلِ، وَالتَّسْلِيمِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ فِي حُكْمِ الْإِتْلَافِ، وَالضَّمَانِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ وَإِنْ ضَمِنَ الْمَكِيلَ يَرْجِعُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَالِكِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، وَقَدْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِحُكْمِ شِرَاءٍ فَاسِدٍ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهُ قِيمَتَهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِرْدَادُ الْعَيْنِ، وَعَلَى الْوَكِيلِ رَدُّ الثَّمَنِ إنْ كَانَ قَبَضَ، وَلَا يَكُونُ لَهُ الثَّمَنُ بِمَا ضَمِنَ لَهُ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ لِلْمُكْرَهِ، وَنَقَضَ مَا ضَمِنَهُ لَهُ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ لِلْمُكْرَهِ، وَقَدْ نَقَضَ الْمُكْرَهُ الْبَيْعَ بِتَضْمِينِهِ الْقِيمَةَ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْغَصْبَ يَعْنِي أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا بَاعَ، ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ يَنْفُذُ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ هُنَاكَ لِنَفْسِهِ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ الْمِلْكُ لَهُ بِالضَّمَانِ، وَهُنَا بَاعَهُ بِطَرِيقِ الْوِكَالَةِ عَنْ الْمُكْرَهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُكْرَهَ لَوْ رَضِيَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ نُفُوذَ الْبَيْعِ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْمُشْتَرَى بِالْقَبْضِ صَارَ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْمُكْرَهِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ نَفَذَ عِتْقُهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُتَمَلِّكًا بِهَذَا السَّبَبِ عَلَى الْوَكِيلِ، فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا يُسَلِّمُ لَهُ الثَّمَنَ بَلْ يَرُدُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَكْرَهَهُ عَلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْوَكِيلُ ضَمَانَ الْقِيمَةِ بِالْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَهُوَ كَانَ طَائِعًا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ الْقِيمَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا إنْ شَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُكْرِهِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ لِلْمُكْرِهِ: لَا أَضْمَنُ لَك شَيْئًا؛ لِأَنَّك أَنْتَ الَّذِي أَمَرْته أَنْ يَدْفَعَ إلَيَّ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُكْرَهٍ عَلَى قَبْضِهِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبِضَهُ، وَإِنَّمَا ضَمَّنَهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ بِقَبْضِهِ، وَتَسْلِيمِهِ.
فَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ حِينَ ضَمِنَ الْقِيمَةَ: أَنَا أُجِيزُ الْبَيْعَ فِيمَا بَيْنِي، وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ الثَّمَنُ لِي لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْمُكْرَهِ، فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْوَكِيلِ، وَإِنْ مَلَكَهُ بِخِلَافِ الْغَصْبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يُضَمِّنُ الْمُكْرِهَ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى، وَالْوَكِيلُ مُكْرَهَيْنِ بِالْقَتْلِ، فَإِنَّ الْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ طَائِعًا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ بِإِكْرَاهِهِ إيَّاهُ عَلَى التَّسْلِيمِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا الْمُكْرِهُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ مَنْ ضَمِنَهُ، وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ عَلَى الْقَبْضِ، وَالتَّسْلِيمِ، فَلَا يَبْقَى فِي جَانِبِهِ فِعْلٌ مُعْتَبَرٌ، وَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا مُكْرَهِينَ بِالْقَتْلِ.
فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ إذْ لَمْ يَبْقَ لِلْمُكْرَهِ فِعْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي التَّسْلِيمِ، وَالْقَبْضِ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُكْرِهُ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا كَالْآلَةِ لَهُ، وَلَيْسَ لِلْمُتْلِفِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْآلَةِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانُوا مُكْرَهِينَ بِالْحَبْسِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبْضِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ الْوَكِيلِ فِي التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ لَا يَخْرُجُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَنْ أَنْ يَكُونَ مُبَاشِرًا لِلْفِعْلِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ رَجَعَ الْوَكِيلُ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ مَنْ ضَمِنَهُ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ الَّذِي يَلِي خُصُومَتَهُ بِمَا دُونَ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ بِالْحَبْسِ، وَذَلِكَ يَنْفِي الْتِزَامَهُ الْعُهْدَةَ بِالْعَقْدِ، فَيَخْرُجُ مِنْ الْوَسَطِ إذَا اخْتَارَ الْمَوْلَى تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي وَتَكُونُ الْخُصُومَةُ فِيهِ لِمَنْ بَاشَرَ الْعَقْدَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَكَّلَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، أَوْ صَبِيًّا مَحْجُورًا بِبَيْعٍ فَاسِدٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ خَاصَمَ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا يُخَاصِمُهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ مِنْ الضَّمَانِ حِين اخْتَارَ الْمَوْلَى تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْعَقْدِ بِالْحَبْسِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ أَحْكَامِ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ الْمَوْلَى بِالْقَتْلِ، وَأُكْرِهَ الْوَكِيلُ، وَالْمُشْتَرِي بِالْحَبْسِ، فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَتَهُ أَيَّهُمْ شَاءَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمْ فِي التَّسْلِيمِ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرِهِ، وَفِعْلُ الْوَكِيلِ، وَالْمُشْتَرِي مَقْصُورٌ عَلَيْهِمَا فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ الَّتِي ضَمِنَ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ وَالْبَيْعِ، وَالدَّفْعِ حِينَ أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ، وَالْمُكْرِهُ بِالضَّمَانِ يَصِيرُ كَالْمَالِكِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ عَلَى مَنْ قَبَضَهُ، وَدَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ أُكْرِهَ الْمَوْلَى، وَالْوَكِيلُ بِالْقَتْلِ، وَأُكْرِهَ الْمُشْتَرِي بِالْحَبْسِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ لِانْعِدَامِ الْفِعْلِ مِنْهُ حِينَ كَانَ مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ قِيمَتَهُ إنْ شَاءَ وَيَرْجِعُ بِهِ الْمُكْرِهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْقَبْضِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ مُكْرَهًا مِنْ جِهَتِهِ بِالْحَبْسِ كَمَا فِي حَقِّ الْوَكِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِنَفْسِهِ بِالشِّرَاءِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِمَا كَانَ حُكْمُ قَبْضِهِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْوَكِيلُ، فَمَا قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا قَبَضَهُ لِيَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ بِأَمْرِ الْمُكْرِهِ، فَلَا يَكُونُ لِلْمُكْرِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ أُكْرِهَ الْمَوْلَى، وَالْوَكِيلُ بِالْحَبْسِ، وَأُكْرِهَ الْمُشْتَرِي بِالْقَتْلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا الْوَكِيلَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يُضَمِّنُ الْمُكْرِهَ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْغَيْرِ مُكْرَهًا مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُكْرَهًا هُنَا عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَالْمُشْتَرِي عَلَى الْقَبْض مُكْرَهٌ بِالْقَتْلِ، فَلَا يَكُونُ قَبْضُهُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَهُوَ مُكْرَهٌ عَلَى الْقَبْضِ، وَالتَّسْلِيمِ بِالْحَبْسِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ نَقْلَ الْفِعْلِ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ، فَيَكُونُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ، فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُكْرِهُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبْضِ صَارَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ قُلْنَا الْمَالِكُ إنَّمَا يُضَمِّنُ الْمُكْرِهَ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ جَرَى بَيْنَهُمَا لَا بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ جَرَى بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَاَلَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا إكْرَاهُهُ إيَّاهُ عَلَى التَّسْلِيمِ بِالْحَبْسِ، فَأَمَّا إكْرَاهُهُ الْمُشْتَرِيَ، فَهُوَ سَبَبٌ بَيْنَ الْمُكْرِهِ وَالْمُشْتَرِي، فَلَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي الْقَبْضِ، وَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ ضَمَانٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ بِتَفْوِيتِ يَدِهِ، وَتَفْوِيتُ يَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ لَا بِاعْتِبَارِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي وَلَوْ أُكْرِهَ الْمَوْلَى، وَالْمُشْتَرِي بِالْقَتْلِ، وَأُكْرِهَ الْوَكِيلُ بِالْحَبْسِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ، فَوَّتَ يَدَهُ حِينَ أَكْرَهَهُ بِالْقَتْلِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْقَبْضِ، وَالتَّسْلِيمِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَأَيُّهُمَا ضُمِّنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ أَمَّا إذَا ضَمَّنَ الْوَكِيلَ، فَلِأَنَّهُ مَا كَانَ عَامِلًا فِي الْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ لِلْمُكْرِهِ، وَفِعْلُهُ فِي الْقَبْضِ، وَالتَّسْلِيمِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ فَلِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ، وَدَفْعِهِ حِينَ أُكْرِهَ بِالْحَبْسِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْقَبْضِ بِوَعِيدِ قَتْلٍ، وَذَلِكَ يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْهُ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِالْقَتْلِ عَلَى أَنْ يُوَكِّلَ هَذَا الرَّجُلَ بِأَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ هَذَا لِهَذَا الرَّجُلِ، فَوَكَّلَهُ بِذَلِكَ، فَقَبَضَهُ الْوَكِيلُ وَدَفَعَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَمَاتَ فِي يَدِهِ، وَالْوَكِيلُ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ غَيْرُ مُكْرَهَيْنِ، فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَتَهُ أَيَّهُمْ شَاءَ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَقْبِضُ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ بِهِبَةٍ فَاسِدَةٍ، فَيَكُونُ ضَامِنًا كَالْمُشْتَرِي، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ رَجَعَ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ رَجَعَ الْمُكْرَهُ إنْ شَاءَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْوَكِيلِ، وَرَجَعَ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا فِي، فَصْلِ الشِّرَاءِ، وَلَوْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَبْسٍ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا، وَكَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ إنْ شَاءَ الْوَكِيلَ وَإِنْ شَاءَ الْمَوْهُوبَ لَهُ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ مَنْ ضَمَّنَهُ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، وَلَمْ يَقْصِدْ تَنْفِيذَ الْهِبَةِ مِنْ جِهَتِهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ مُتَمَلِّكٌ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ مَجَّانًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ، أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ حَالَةَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ التَّحْرِيمِ، وَالْمَيْتَةُ، وَالْخَمْرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَتْلَفُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الَّذِي يَخَافُ الْهَلَاكَ مِنْ الْجُوعِ، وَالْعَطَشِ إذَا وَجَدَ مَيْتَةً، أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ دَمًا، فَلَمْ يَأْكُلْ، وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ آثِمًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ فِي الْمَاءِ الَّذِي خَالَطَهُ الْخَمْرُ، وَالتَّحَرُّز عَنْ قَوْلِ مَنْ خَالَفْنَا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ عِنْدَ الْعَطَشِ، وَفَائِدَةٌ: وَذَكَرَهُ عَنْ مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: مَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ، أَوْ لَحْمِ خِنْزِيرٍ، أَوْ دَمٍ، فَلَمْ يَأْكُلْ، وَلَمْ يَشْرَبْ، فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ، وَهَذَا دَلِيلُنَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِدُخُولِ الدَّارِ لِمَنْ يَرْتَكِبُ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ حَتَّى اشْتَغَلَ بَعْضُهُمْ بِالتَّأْوِيلِ بِهَذَا اللَّفْظِ قَالُوا: مُرَادُهُ الدُّخُولُ الَّذِي هُوَ تَحِلَّةُ الْقَسَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا} أَيْ دَاخِلُهَا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ وَلَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ بَيَانُ الْجَزَاءِ عَلَى ارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ، وَلَكِنْ لَا يَظُنُّ أَحَدٌ بِمِثْلِهِ أَنَّهُ يَقْصِدُ بِهَذَا اللَّفْظِ نَفْيَ الْمَشِيئَةِ، وَقَطْعَ الْقَوْلِ بِالْعَذَابِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ رَجَوْت أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّحَرُّزَ عَنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ فِي زَعْمِهِ.
وَهَذَا؛ لِأَنَّ انْكِشَافَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ دَلِيلُهُ خَفِيٌّ، فَيُعْذَرُ فِيهِ بِالْجَهْلِ كَمَا أَنَّ عَدَمَ وُصُولِ الْخِطَابِ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَهِرَ يُجْعَلُ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ مَا ثَبَتَ بِخِطَابِ الشَّرْعِ يَعْنِي الصَّلَاةَ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي فَصْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَأْجُورٌ فِيهِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ الْمُجْبَرَ فِي نَفْسِهِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنْ أَبَى الْكُفْرَ حَتَّى قُتِلَ، وَحَدِيثُ خُبَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ مَعْرُوفٌ، وَأَشَارَ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الشِّرْكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ رُخْصَةٌ لَهُ، وَالِامْتِنَاعُ هُوَ الْعَزِيمَةُ فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ وَسِعَهُ، وَإِنْ تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ؛ لِأَنَّ فِي تَمَسُّكِهِ بِالْعَزِيمَةِ إعْزَازُ الدِّينِ، وَغَيْظُ الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ أَفْضَلَ، وَعَلَى هَذَا إذَا قِيلَ لَهُ: لَئِنْ صَلَّيْت لَأَقْتُلَنَّكَ فَخَافَ ذَهَابَ الْوَقْتِ، فَقَامَ، وَصَلَّى، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسَعُهُ تَرْكُهُ فَلَمَّا صَلَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ صَوْمُ رَمَضَانَ لَوْ قِيلَ لَهُ: وَهُوَ مُقِيمٌ لَئِنْ لَمْ تُفْطِرْ لَنَقْتُلَنَّكَ، فَأَبَى أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى قُتِلَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْعَزِيمَةِ، وَفِيمَا، فَعَلَهُ إظْهَارُ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ، وَإِنْ أَفْطَرَ وَسِعَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَأْكُلْ، وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ آثِمًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا، فَصَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتُفْطِرَنَّ، فَأَبَى أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُعْتَدًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فَعِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِمَا أَيَّامُهُ كَلَيَالِيِهِ، وَكَأَيَّامِ شَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، فَيَكُونُ فِي الِامْتِنَاعِ حَتَّى يَمُوتَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْطَرِّ فِي فَصْلِ الْمَيْتَةِ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ، فَالْأَمْرُ بِالصَّوْمِ فِي حَقِّهِ عَزِيمَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وَالْفِطْرُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةٌ، فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ، فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ تَمَسَّك بِالْعَزِيمَةِ، فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُفْطِرًا بِالتَّنَاوُلِ مُكْرَهًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِيرُ مُفْطِرًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الصَّوْمِ، فَإِنَّ الْخَاطِئَ، وَالْمُكْرَهَ عِنْدَهُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَقَالَ: الْمُكْرَهُ مَسْلُوبُ الْفِعْلِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِتْلَافَ الْحَاصِلَ بِفِعْلِهِ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُكْرَهُ إنَّمَا يُجْعَلُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَهُ، وَهُوَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى صَوْمِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْغَيْرِ، فَيَقْتَصِرُ حُكْمُ فِعْلِهِ فِي حَقِّ الْإِفْطَارِ عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُكْرَهَ لَوْ كَانَ صَائِمًا لَمْ يَصِرْ مُفْطِرًا بِهَذَا، فَلَوْ جَعَلْنَا الْفِعْلَ عَدَمًا فِي حُكْمِ الْمُكْرَهِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ رَجَعَ إلَى الْإِهْدَارِ، وَلَيْسَ لِلْإِكْرَاهِ تَأْثِيرٌ فِي الْإِهْدَارِ، وَلَا فِي تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَبِهِ فَارَقَ حُكْمَ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْفِعْلَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ لَا يُؤَدِّي إلَى الْإِهْدَارِ، وَلَا إلَى تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ.
.
وَلَوْ قَالَ لَهُ لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَأْخُذَنَّ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ فَتُعْطِينِيهِ، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مُبَاحٌ لَهُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، وَقِيَامُ الْحُرْمَةِ، وَالتَّقَوِّي حَقًّا لِلْمَالِكِ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْعَزِيمَةُ فِي تَرْكِ الْأَخْذِ، فَإِنْ تَمَسَّك بِالْعَزِيمَةِ كَانَ مَأْجُورًا، وَقَيَّدَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا بِعَيْنِهِ نَصًّا بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْأَخْذِ هُنَا لَا يَرْجِعُ إلَى إعْزَازِ الدِّينِ، فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ.
وَلَوْ أَنَّ مُحْرِمًا قِيلَ لَهُ: لَنَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الصَّيْدَ، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، فَكَأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَزِيمَةٌ، وَإِبَاحَةَ قَتْلِ الصَّيْدِ رُخْصَةٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ تَمَسَّك بِالْعَزِيمَةِ، فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ، فَإِنْ قَتَلَ الصَّيْدَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْقِيَاسِ، وَلَا عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَى الْقَاتِلِ الْكَفَّارَةُ أَمَّا الْآمِرُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَلَالٌ لَوْ بَاشَرَ قَتْلَ الصَّيْدِ بِيَدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا أَكْرَهَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، وَأَمَّا الْمُحْرِمُ، فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ بِالْإِلْجَاءِ التَّامِّ، فَيَنْعَدِمُ الْفِعْلُ فِي جَانِبِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ هُوَ ضَامِنًا شَيْئًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ، فَفِي قَتْلِ الصَّيْدِ أَوْلَى، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مِنْهُ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِهِ وَهُوَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ فَأَمَّا قَتْلُ الْمُسْلِمِ، فَجِنَايَةٌ عَلَى الْمَحَلِّ، وَهُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِي ذَلِكَ حَتَّى إنَّ فِي حَقِّ الْآثِمِ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ جِنَايَةً عَلَى حَقِّ دِينِهِ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ اقْتَصَرَ الْفِعْلُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْآثِمِ: تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْآمِرِ هُنَا شَيْءٌ، فَلَوْ لَمْ نُوجِبْ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْقَاتِلِ كَانَ تَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ فِي الْإِهْدَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِي الْإِهْدَارِ، وَلَا فِي تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ جَمِيعًا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ أَمَّا عَلَى الْمُكْرِهِ، فَلِأَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ قَتْلَ الصَّيْدِ بِيَدِهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، فَكَذَلِكَ إذَا بَاشَرَ بِالْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا الْمُكْرَهُ، فَلِأَنَّهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ هُنَا إلَى نِسْبَةِ أَصْلِ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرِهِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ، فَكَفَّارَةُ الصَّيْدِ تَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالدَّلَالَةِ، وَالْإِشَارَةِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ أَصْلُ الْفِعْلِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، وَبِهِ فَارَقَ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ إذَا كَانَ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الدِّيَةِ، وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ نِسْبَةِ الْمُبَاشَرَةِ إلَى الْمُكْرَهِ أَنْ لَا يَبْقَى فِعْلٌ فِي جَانِبِ الْمُكْرِهِ، وَهُنَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَا يَعْتَمِدُ مُبَاشَرَةَ الْقَتْلِ، فَيَجُوزُ إيجَابُهُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَعَلَى الْمُكْرِهِ بِالتَّسْبِيبِ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُنَا الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانٍ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ، فَأَمَّا هُنَاكَ، فَالسَّبَبُ هُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَحَلِّ، وَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ، فَإِذَا أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ بِاعْتِبَارِهَا عَلَى الْمُكْرَهِ قُلْنَا: لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَلَوْ تَوَعَّدَهُ بِالْحَبْسِ، وَهُمَا مُحْرِمَانِ، فَفِي الْقِيَاسِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ فِعْلٌ، وَلَا أَثَرَ لِلْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ فِي الْأَفْعَالِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْجَزَاءُ أَمَّا عَلَى الْقَاتِلِ، فَلَا يَشْكُلُ، وَأَمَّا عَلَى الْمُكْرَهِ فَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الدَّلَالَةِ، وَالْإِشَارَةِ، وَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ، فَبِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ أَوْلَى.
وَلَوْ كَانَا حَلَالَيْنِ فِي الْحَرَمِ، وَقَدْ تَوَعَّدَهُ بِقَتْلٍ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُكْرِه؛ لِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ فِي حُكْمِ ضَمَانِ الْمَالِ، وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، فَلَا تَجِبُ بِالدَّلَالَةِ، وَلَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْفَاعِلِينَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ، وَذَلِكَ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ عِنْدَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، وَإِنْ تَوَعَّدَهُ بِالْحَبْسِ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ خَاصَّةً بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ خَطَأً.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكِرٍ، فَخَافَ إنْ، فَعَلَ أَنْ يُقْتَلَ وَسِعَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَإِنْ فَعَلَ، فَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَرْضٌ مُطْلَقًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} الْآيَةَ، وَالتَّرْكُ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ رُخْصَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}، فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ كَانَ فِي سَعَةٍ، وَإِنْ تَمَسَّك بِالْعَزِيمَةِ كَانَ مَأْجُورًا.
وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى جَمْعٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْكِي فِيهِمْ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ لَمْ يَسَعْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ مِنْ غَيْرِ، فَائِدَةٍ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَمْنَعَ قَوْمًا مِنْ، فَسَقَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُنْكِرٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ بِسَبَبِهِ، وَأَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ، فَإِنَّهُ يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُونَ الْإِسْلَامَ فَزَجْرُهُ إيَّاهُمْ يُؤَثِّرُ فِيهِمْ اعْتِقَادًا لَا مَحَالَةَ، وَأُولَئِكَ غَيْرُ مُعْتَقِدِينَ، فَالشَّرْطُ أَنْ يَنْكِيَ فِعْلُهُ فِيهِمْ حِسًّا، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ.
وَلَوْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى أَنْ يَزْنِيَ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَفْعَلَ، فَإِنْ فَعَلَ، وَكَانَ مُحْرِمًا فَسَدَ إحْرَامُهُ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ دُونَ الَّذِي أَكْرَهَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِعْلَهُ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِهِ وَهُوَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ وَلَوْ أُكْرِهَتْ امْرَأَةٌ مُحْرِمَةٌ بِالْقَتْلِ عَلَى الزِّنَا، وَسِعَهَا أَنْ تُمُكِّنَ مِنْ نَفْسِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ جَانِبِهَا، وَجَانِبِ الرَّجُلِ فِي حُكْمِ الْإِثْمِ، فَأَمَّا فَسَادُ الْإِحْرَامِ فَلَا فَرْقَ حَتَّى يَفْسُدَ إحْرَامُهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ دُونَ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ تَمْكِينهَا مِنْ نَفْسِهَا جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِهَا، وَهِيَ لَا تَصْلُحْ فِي ذَلِكَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ حَتَّى تُقْتَلَ، فَهِيَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا، وَالْجِمَاعِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ فَهِيَ فِي الِامْتِنَاعِ تَتَمَسَّكُ بِالْعَزِيمَةِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُكْرَهِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمهُ كَفَّارَةً يَفِي بِهَا، وَلَوْ رَجَعَ بِهَا عَلَيْهِ يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا الْتَزَمَهُ، وَكُلُّ أَمْرٍ أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ مَا أَحَلَّ فِي الضَّرُورَةِ مِنْ الْمَيْتَةِ، وَغَيْرِهَا، وَالْفِطْرِ فِي الْمَرَضِ، وَالسَّفَرِ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ، أَوْ قُتِلَ، فَهُوَ آثِمٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَجِئْ فِيهِ إحْلَالٌ إلَّا أَنْ فِيهِ رُخْصَةً، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ بِالرُّخْصَةِ حَتَّى قُتِلَ، فَهُوَ فِي سَعَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا إغْرَارٌ بِالدِّينِ، وَلَيْسَ فِي الْأَوَّلِ إغْرَارٌ بِالدِّينِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مُحْرِمًا لَوْ اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ، وَإِلَى ذَبْحِ صَيْدٍ حَلَّ لَهُ عِنْدَنَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَبْحُ الصَّيْدِ مَا دَامَ يَجِدُ الْمَيْتَةَ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ حَلَالٌ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَالصَّيْدُ جَاءَ تَحْرِيمُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ جُمْلَةً، وَلِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ الصَّيْدَ صَارَ مَيْتَةً أَيْضًا، فَيَصِيرُ هُوَ جَامِعًا بَيْنَ ذَبْحِ الصَّيْدِ وَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَإِذَا تَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِهِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ وَالْحِلُّ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَإِنْ كَانَتْ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِأَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ دُلَّنَا عَلَى مَالِكَ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا لِأَنَّهُ قَصَدَ الدَّفْعَ عَنْ مَالِهِ وَذَلِكَ عَزِيمَةٌ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مِنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» وَلِأَنَّ فِي دَلَالَتِهِ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَلِهَذَا يَسَعُهُ أَنْ لَا يَدُلَّهُمْ وَإِنْ دَلَّهُمْ حَتَّى أَخَذُوهُ ضَمِنُوا لَهُ لِأَنَّ بِدَلَالَتِهِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا غَاصِبِينَ لِمَالِهِ مُتْلِفِينَ فَعَلَيْهِمْ الضَّمَانُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا قَذْفًا وَجَحَدَهُ الرَّجُلُ فَأَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ وَزُكُّوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَأَمَرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ أَنْ يُلَاعِنَهَا فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ وَقَالَ لَمْ أَقْذِفْهَا وَقَدْ شَهِدُوا عَلَيَّ بِالزُّورِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُجْبِرُهُ عَلَى اللِّعَانِ وَيَحْبِسُهُ حَتَّى يُلَاعِنَ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ إيفَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَيَحْبِسُهُ لِأَجْلِهِ وَلَا يَضْرِبُهُ الْحَدَّ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الطَّلَاقِ فَإِنْ حَبَسَهُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ هَدَّدَهُ بِالْحَبْسِ حَتَّى يُلَاعِنَ وَقَالَ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا قَالَهُ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْت مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْتَعَنَتْ الْمَرْأَةُ أَيْضًا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ أَوْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ اللِّعَانَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا وَيُبْطِلُ الْفُرْقَةَ وَيَرُدُّهَا إلَيْهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَضَى بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَالْقَضَاءُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ وَلَا يُقَالُ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا فِي شَهَادَاتِ اللِّعَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِإِكْرَاهٍ مِنْ الْقَاضِي إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ هَدَّدَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ قَذَفَ هَذَا الرَّجُلَ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ هُنَا فَإِنْ قِيلَ ذَاكَ إكْرَاهٌ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا إكْرَاهٌ بِحَقٍّ قُلْنَا هَذَا إكْرَاهٌ بِحَقٍّ ظَاهِرًا فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ كَانَ بِالْبَاطِلِ حَقِيقَةً وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي لَمْ يَحْبِسْهُ حَتَّى يُلَاعِنَ وَلَمْ يُهَدِّدْهُ بِحَبْسٍ وَلَكِنَّهُ قَالَ قَدْ شَهِدُوا عَلَيْك بِالْقَذْفِ وَقَضَيْت عَلَيْك بِاللِّعَانِ فَالْتَعَنَ وَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى هَذَا فَالْتَعَنَ الرَّجُلُ كَمَا لَوْ وَصَفْت لَك وَالْتَعَنَتْ الْمَرْأَةُ وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ كَانُوا عَبِيدًا فَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُمْ فَإِنَّهُ يُمْضِي اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ وَتَمْضِي الْفُرْقَةُ وَيَجْعَلُهَا بَائِنًا مِنْ زَوْجِهَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا لَمْ يُهَدِّدْهُ بِحَبْسٍ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى قَالَ أُشْهِدُكُمْ بِاَللَّهِ أَنَّى لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِغَيْرِ إكْرَاهٍ فَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهِ إيَّاهَا بَعْدَ مَا جَحَدَ ثُمَّ الْتَعَنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ تَفْرِيقًا صَحِيحًا بِاعْتِبَارِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ الْقَاضِي قَدْ شَهِدُوا عَلَيْك أَنَّك قَذَفْت هَذَا الرَّجُلَ بِالزِّنَا وَقَدْ قَضَيْت عَلَيْك بِالْحَدِّ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَجَلٌ قَدْ قَذَفْته بِالزِّنَا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ بَاطِلَةٌ ضَرَبَ الْحَدَّ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَذْفِ وَلَوْ قَالَ قَدْ شَهِدَ عَلَيْك الشُّهُودُ بِالْقَذْفِ فَلَتُقِرَّنَّ بِذَلِكَ أَوْ لَأَحْبِسَنَّكَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ بَاطِلَةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ قَذَفَهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ اللِّعَانِ وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ وَلَكِنَّهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَيْهِمَا بِزُورِ فَالْتَعْنَا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا كَانَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.