فصل: بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ الْعَمَلِ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ كِتَابَهُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ عِبَارَتِهِ، وَلَوْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَعَبَّرَ بِلِسَانِهِ عَمَّا فِي الْكِتَابِ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْقَاضِي.
فَكَذَلِكَ إذَا كَتَبَ بِهِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ يُزَوَّرُ وَيُفْتَعَلُ وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَالْخَاتَمُ يُشْبِهُ الْخَاتَمَ فَكَانَ مُحْتَمَلًا وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ، وَلَكِنَّا جَوَّزْنَا الْعَمَلَ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ وَلِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ الشَّاهِدُ لِلْمَرْءِ فِي حَقِّهِ عَلَى بَلْدَةٍ وَخَصْمُهُ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُشْهِدَ فِي شَهَادَتِهِمَا وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَعْجَزُونَ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا، ثُمَّ يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَةِ الْأُصُولِ وَيَتَعَذَّرُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى نَقْلِ شَهَادَتِهِمْ بِالْكِتَابِ إلَى مَجْلِسِ ذَلِكَ الْقَاضِي لِيَتَعَرَّفَ الْقَاضِي مِنْ الْكِتَابِ عَدَالَتَهُمْ وَيَكْتُبَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ فَلِلتَّيْسِيرِ جَوَّزْنَا ذَلِكَ، وَلَكِنْ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ شُبْهَتِهِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ لَا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ فَلَمَّا جُعِلَ هَذَا حُجَّةً لِلْحَاجَةِ اُقْتُصِرَ عَلَى مَا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمْشِي إلَى ذَلِكَ.
فَإِذَا أَتَى الْقَاضِيَ كِتَابُ قَاضٍ سَأَلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَاتَمُهُ؛ لِأَنَّهُ غَابَ عَنْ الْقَاضِي عِلْمُهُ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ يَقْرَؤُهُ عَلَيْهِمْ وَيَشْهَدُونَ عَلَى مَا فِيهِ فَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عِلْمَ الشُّهُودِ بِمَا فِي الْكِتَابِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْقَضَاءِ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ خَاتَمُهُ وَكِتَابُهُ قَبِلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي قَدْ يُسْتَعْمَلُ عَلَى شَيْءٍ لَا يُعْجِبُهُمَا أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمَا؛ وَلِهَذَا يُخْتَمُ الْكِتَابُ وَمَعْنَى الِاحْتِيَاطِ يَحْصُلُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَاتَمُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ وَالْمَقْصُودُ مَا فِي الْكِتَابِ لَا عَيْنُ الْكِتَابِ وَالْخَتْمِ وَكُتُبُ الْخُصُومَاتِ لَا يُسْتَعْمَلُ عَلَى شَيْءٍ سِوَى الْخُصُومَةِ فَلِلتَّيْسِيرِ يَطْلُبُ كِتَابًا آخَرَ عَلَى حِدَةٍ.
فَأَمَّا مَا يُبْعَثُ عَلَى يَدِ الْخَصْمِ لَا يَشْتَمِلُ إلَّا عَلَى ذِكْرِ الْخُصُومَةِ وَلَفْظِ الشَّهَادَةِ.
(قَالَ) وَلَا يُفْتَحُ الْكِتَابُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّ الْكَاتِبَ يَنْقُلُ أَلْفَاظَ الشَّهَادَةِ كِتَابَةً إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ يَنْقُلُ شَهَادَةَ شَاهِدِ الْأَصْلِ بِعِبَارَتِهِ، ثُمَّ لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ.
فَكَذَلِكَ لَا يُفْتَحُ الْكِتَابُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ.
فَإِذَا قَرَأَهُ عَلَيْهِ وَعَلِمَ مَا فِيهِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرِمَهُ وَيَخْتِمَهُ لِكَيْ لَا يُغَيِّرَ شَيْئًا مِنْهُ وَيَكْتُبَ عَلَيْهِ اسْمَ صَاحِبِهِ لِيُتَسَيَّرَ عَلَيْهِ وُجُودُهُ فِي قِمْطَرِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.
وَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَى هَذَا الْقَاضِي بَعْدَ مَا مَاتَ الْكَاتِبُ، أَوْ عُزِلَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتَاهُ كِتَابُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ قَدْ انْعَزَلَ حِينَ عُزِلَ، أَوْ مَاتَ فَإِنَّمَا أَتَاهُ كِتَابُ وَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا، وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ، وَإِنْ مَاتَ ذَلِكَ، أَوْ عُزِلَ بَعْدَ مَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَى هَذَا الْقَاضِي وَقَرَأَ مَا فِيهِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَتَاهُ كِتَابُ الْقَاضِي، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْكِتَابَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالشَّاهِدُ عَلَى الشَّهَادَةِ إذَا مَاتَ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِشَهَادَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ.
فَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ وُصُولَ الْكِتَابِ إلَيْهِ وَقِرَاءَتَهُ فِي مَعْنَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ، أَوْ عُزِلَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ الْكِتَابُ، ثُمَّ وَصَلَ إلَى الَّذِي وَلِيَ بَعْدَهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَصَلَ إلَيْهِ وَقَرَأَهُ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ فِي مَجْلِسِهِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُنَفِّذَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ إلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ جُوِّزَ ذَلِكَ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا إلَّا أَنَّهُ يُكَلِّفُ الْخَصْمَ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَتْمِ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا قَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ قَدْ بَطَلَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ تَنْفِيذِهِ وَإِنْ كَتَبَ الْقَاضِي إلَى قَاضٍ فِي حَقٍّ لِرَجُلٍ شَهَادَةَ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَمِّيَ الشُّهُودَ فِي الْكِتَابِ وَيَنْسُبَهُمْ إلَى آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْغَائِبَ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَجِبُ تَعْرِيفُهُ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْمَحْدُودَاتُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُدُودِ فَيُعْرَفُ الْآدَمِيُّ بِالنَّسَبِ وَالِاسْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ فِي تَعْرِيفِهِ إذَا تَعَذَّرَ إحْضَارُهُ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِذَكَرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ جَدِّهِ فَالْمَقْصُودُ تَمْيِيزُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَالتَّمْيِيزُ يَحْصُلُ بِهَذَا فَقَلَّ مَا يَتَّفِقُ رَجُلَانِ فِي الِاسْمِ وَالنَّسَبِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَإِنْ كَانَ فَهُوَ نَادِرٌ وَيَذْكُرُ قَبِيلَتَهُ أَيْضًا، وَلَوْ اكْتَفَى بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ قَبِيلَتِهِ جَازَ أَيْضًا فَقَلَّ مَا يَتَّفِقُ رَجُلَانِ فِي قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ بِاسْمِهِمَا وَاسْمِ أَبِيهِمَا وَيُقَامُ ذِكْرُ الْقَبِيلَةِ مَقَامَ ذِكْرِ الْجَدِّ فَهُوَ الْجَدُّ الْأَعْلَى، وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ يَكْفِي إذَا عَرَّفَهُ بِصِنَاعَةٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَكْفِي؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الصِّنَاعَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَدْ يَتَحَوَّلُ الْإِنْسَانُ مِنْ صِنَاعَةٍ إلَى صِنَاعَةٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَهُمْ بِالصَّلَاحِ كَتَبَ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ كَتَبَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إعْلَامُ عَدَالَتِهِمْ لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَضَاءِ فَالْقَضَاءُ يَقَعُ بِشَهَادَتِهِمْ.
وَإِنْ حَلَّاهُمْ فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَرَكَ التَّحْلِيَةَ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ التَّعْرِيفُ قَدْ حَصَلَ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ رَأْيِ الْكَاتِبِ أَنْ يَذْكُرَ التَّحْلِيَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَشِينُهُ وَلَا يُعَيَّرُ بِهِ فِي النَّاسِ فَيَتَحَرَّزُ عَنْ ذِكْرِ مَا يَشِينُهُ فَذَلِكَ نَوْعُ غِيبَةٍ فَإِنْ أَرَادَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَعَلَهُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ تَثْبُتُ عِنْدَهُ بِالْكِتَابِ فَكَأَنَّهُ تَثْبُتُ بِسَمَاعِهِ مِنْهُمْ وَكَمَا جَوَّزْنَا الْكِتَابَ مِنْ الْقَاضِي الْأَوَّلِ لِلْحَاجَةِ.
فَكَذَلِكَ نُجَوِّزُهُ مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ قَدْ يَهْرُبُ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى قَبْلَ قَضَاءِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا سَمِعَ الْقَاضِي شَهَادَةَ الشُّهُودِ وَكَتَبَ بِهَا إلَى قَاضٍ آخَرَ فَلَمْ يَخْرُجْ الْكِتَابُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى حَضَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَحْكُمُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهُ الْأَوَّلَ كَانَ لِلنَّقْلِ فَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ كَشَاهِدِ الْفَرْعِ إذَا اسْتَقْصَى بَعْدَ مَا شَهِدَ الْأَصْلِيَّانِ عِنْدَهُ وَأَشْهَدَاهُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَاَلَّذِي سَمِعَ شَهَادَةً لَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ مَا يَحْصُلُ الْبَيَانُ بِهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ بَعْدَ إنْكَارِهِ أَوْ سُكُوتِهِ الْقَائِمِ مَقَامَ إنْكَارِهِ فَإِنْ أَعَادَ الْمُدَّعِي تِلْكَ الْبَيِّنَةَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ فَالْآنَ يَقْضِي لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ لِلْقَضَاءِ إنْكَارُ الْخَصْمِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حِينَ أَعَادَهَا، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدَاءِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.
وَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَقَرَأَهُ بِحَضْرَةِ الْخَصْمَ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْخَتْمِ، وَمَا فِيهِ وَهُوَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ لَمْ يُنَفِّذْهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَأْيِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ، وَإِنَّمَا نَقَلَ الشَّهَادَةَ بِكِتَابِهِ إلَى مَجْلِسِهِ فَلَا يَحْكُمُ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ كَمَا إذَا شَهِدَ الْفُرُوعُ عِنْدَهُ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ قَضَى بِهِ وَأَعْطَى الْخَصْمَ سِجِلًّا فَالثَّانِي يُنَفِّذُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَأْيِهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُبْطِلَ قَضَاءَهُ، وَإِنْ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ.
فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ.
فَأَمَّا فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ مَا قَضَى بِشَيْءٍ (أَلَا تَرَى) أَنَّ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ كِتَابَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إلَى الثَّانِي، وَأَنَّ الْخَصْمَ لَوْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
فَكَذَلِكَ الثَّانِي لَا يَنْفُذُ كِتَابُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلٌ أَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ إلَّا فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَسَيَأْتِيك بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ قَاضِي رُسْتَاقٍ وَلَا قَرْيَةٍ وَلَا كِتَابُ عَامِلِهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْمُولَ بِهِ كِتَابُ الْقَاضِي وَالْقَاضِي الرُّسْتَاقِ مُتَوَسِّطٌ، وَلَيْسَ بِقَاضٍ فَالْمِصْرُ مِنْ شَرَائِطِ الْقَضَاءِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ كَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْمِصْرِ، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ أَنَّ قَاضِي الْقَرْيَةِ إذَا قَضَى بِشَيْءٍ بَعْدَ تَقْلِيدِ مُطْلَقٍ فَقَضَاؤُهُ نَافِذٌ فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ قَاضِي الرُّسْتَاقِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُقْبَلُ كِتَابُهُ وَعَلَى هَذَا قَالُوا إذَا خَرَجَ قَاضِي الْمِصْرِ إلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ فِنَاءِ الْمِصْرِ فَقَضَى هُنَاكَ بِالْحُجَّةِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْقَضَاءِ وَهُوَ الْمِصْرُ وَعَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَخَذُوا بِذَلِكَ قَالُوا أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي ضَيْعَةٍ فِي بَعْضِ الْقُرَى فَرَأَى الْقَاضِي الْأَحْوَطَ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لِيَسْمَعَ الدَّعْوَى وَالْمُشَاهَدَةِ وَيَحْكُمُ عِنْدَ الضَّيْعَةِ أَمَا كَانَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ بِذَلِكَ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا قَالَ تَأْوِيلُ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى قَبُولِ كِتَابِ الْقَاضِي الرُّسْتَاقِ فَإِنَّهُ يَتَيَسَّرُ إحْضَارُ الْخَصْمِ مَعَ الشُّهُودِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فِي الْمِصْرِ، وَلَكِنْ هَذَا بَعِيدٌ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إلَّا كِتَابُ قَاضِي مَدِينَةٍ فِيهَا مِنْبَرٌ وَجَمَاعَةٌ، أَوْ كِتَابُ الْأَمِيرِ الَّذِي اسْتَعْمَلَ الْقَاضِي لَا لَهُ بِمَا كَفَلَ كِتَابٌ مِنْ تِلْكَ تَنْفِيذَ الْقَضَاءِ وَالْأَمِيرُ الَّذِي اسْتَعْمَلَ الْقَاضِي لَوْ نَفَّذَ الْقَضَاءَ بِنَفْسِهِ جَازَ ذَلِكَ مِنْهُ وَكَيْفَ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِأَمْرِهِ.
فَكَذَلِكَ قَاضِي الْمَدِينَةِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لَوْ قَضَى بِنَفْسِهِ فَيُقْبَلُ كِتَابُهُ بِخِلَافِ قَاضِي الرُّسْتَاقِ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى كِتَابِ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ لِذِمِّيٍّ عَلَى ذِمِّيٍّ وَلَا عَلَى قَضَائِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى فِعْلِ الْمُسْلِمِ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ فِعْلِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ فَقَلَّ مَا يَحْضُرُ الْمُسْلِمُونَ مُعَامَلَاتِهِمْ خُصُوصًا الْأَنْكِحَةَ وَالْوَصَايَا، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي قَضَاءِ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ وَكِتَابِهِ وَخَاتَمِهِ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ فِي مَجْلِسِهِ وَمَجْلِسُ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَإِذَا جَاءَ بِكِتَابِ الْقَاضِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسِبَهُ إلَى أَبِيهِ وَإِلَى فَخِذِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا أَوْ يَنْسِبَهُ إلَى تِجَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا مَشْهُورَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النِّسْبَةِ إلَى التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ مَقَامَ النِّسْبَةِ إلَى الْفَخِذِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مَشْهُورًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْفَخِذِ، أَوْ إلَى التِّجَارَةِ اثْنَانِ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُنْسَبَ إلَى شَيْءٍ يُعْرَفُ بِهِ مِنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَمَيُّزِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ بِحَضْرَتِهِمَا لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ بِدُونِ التَّعْيِينِ.
فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ لَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ شُبْهَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ إلَّا وَاحِدًا فَأَقَامَ الْخَصْمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى ذَلِكَ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ، وَأَنَّهُ قَدْ مَاتَ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ إذَا كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ تَارِيخِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ قَبِلْتُهُ وَأَبْطَلْتُ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْلُومِ لِلْقَاضِي، وَلَوْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْقَاضِي وُجُودُهُ وَمَوْتُهُ قَبْلَ تَارِيخِ الْكِتَابِ لَمْ يَمْتَنِعْ لِأَجْلِهِ مِنْ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ ذُكِرَ الِاسْمُ وَالنَّسَبُ مُطْلَقًا فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى الْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْمَيِّتَ يُذْكَرُ فِي الْكِتَابِ فُلَانٌ الْمَيِّتُ وَأَمَّا إذَا كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ تَارِيخِ الْكِتَابِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ حَيًّا حِينَ كَتَبَ الْقَاضِي، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَا يُمَيِّزُ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ أَرَأَيْت لَوْ ادَّعَى هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ وَاحْتَجَّ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ بِالْحَيِّ أَكَانَ يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ عَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ بِشَيْءٍ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَا يُمَيِّزُ مُوَرِّثَهُمْ مِنْ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْكِتَابِ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ لِفُلَانٍ، وَقَدْ مَاتَ فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا دُونَ الْحَيِّ، وَإِنْ كَانَ نَسَبَهُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ إلَى أَبِيهِ وَإِلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، أَوْ إلَى تَمِيمٍ أَوْ هَمْدَانَ لَمْ أُجِزْهُ حَتَّى يَنْسِبَهُ إلَى فَخِذِهِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا أَدْنَاهَا إلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَقُولَ قَبِيلَتُهُ عَلَيْهَا الْعَرَّافَةُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعْرِيفُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِنِسْبَتِهِ إلَى أَدْنَى الْأَفْخَاذِ أَرَأَيْتَ لَوْ قَالُوا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْعَرَبِيُّ أَوْ نَسَبُوهُ إلَى آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَانَ يَحْصُلُ التَّعْرِيفُ بِذَلِكَ.
(قَالَ) إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مَشْهُورًا أَشْهَرَ مِنْ الْقَبِيلَةِ فَيُقْبَلَ ذَلِكَ إذَا نَسَبَهُ إلَى تِلْكَ الشُّهْرَةِ فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَحْصُلُ بِالشُّهْرَةِ فَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ.
، وَلَوْ جَاءَ بِكِتَابِ قَاضٍ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ عَلَى دَارٍ لَيْسَ فِيهَا حُدُودٌ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِهِ فِي مَجْلِسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَجْهُولٌ فَفِيمَا لَا يُمْكِنُ إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي التَّعْرِيفُ بِذِكْرِ الْحُدُودِ فَيَبْقَى مَجْهُولًا بِدُونِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا حَدُّوهَا بِحَدَّيْنِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إذَا ذَكَرُوا أَحَدَ حَدَّيْ الطُّولِ وَأَحَدَ حَدِّ الْعَرْضِ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ وَيَكْتَفِيَ بِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ بِذِكْرِ الْحَدَّيْنِ لَا يَصِيرُ مِقْدَارُ الْمَشْهُودِ بِهِ مَعْلُومًا فَإِنْ حَدُّوهَا بِثَلَاثَةِ حُدُودٍ جَازَ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِبَقَاءِ بَعْضِ الْجَهَالَةِ حِينَ لَمْ يَذْكُرُوا الْحَدَّ الرَّابِعَ وَقِيَاسُ هَذَا بِمَا لَوْ ذَكَرُوا الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ وَغَلِطُوا فِي أَحَدِهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ ذَكَرُوا أَكْثَرَ الْحُدُودِ وَإِقَامَةُ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، ثُمَّ مِقْدَارُ الطُّولِ بِذِكْرِ الْحَدَّيْنِ صَارَ مَعْلُومًا وَمِقْدَارُ الْعَرْضِ بِذِكْرِ أَحَدِ الْحَدَّيْنِ بَعْدَ إعْلَامِ الطُّولِ يَصِيرُ مَعْلُومًا أَيْضًا، وَقَدْ تَكُونُ الْأَرْضُ مُثَلَّثَةً لَهَا ثَلَاثَةُ حُدُودٍ.
فَإِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطُوا فِي ذِكْرِ أَحَدِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ بِمَا ذَكَرُوا صَارَ شَيْئًا آخَرَ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَمَا إذَا خَالَفُوا فِي ذِكْرِهِ كَمَا إذَا ادَّعَى شِرَاءَ شَيْءٍ بِثَمَنٍ مَنْقُودٍ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ، وَإِنْ سَكَتَ الشُّهُودُ عَنْ ذِكْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ، وَلَوْ ذَكَرُوا ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَحُدُّوهَا وَنَسَبُوهَا إلَى اسْمٍ مَعْرُوفٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالشُّهْرَةِ كَالتَّعْرِيفِ بِذِكْرِ الْحُدُودِ، أَوْ أَبْلَغُ وَذِكْرُ الْحُدُودِ فِي الْعَقَارَاتِ كَذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فِي الْآدَمِيِّ، ثُمَّ هُنَاكَ الشُّهْرَةُ تُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ بِالشُّهْرَةِ يَصِيرُ مَوْضِعُ الْأَصْلِ مَعْلُومًا.
فَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَشْهُودِ بِهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِذِكْرِ الْحُدُودِ وَجَهَالَةُ الْمِقْدَارِ تَمْنَعُ مِنْ الْقَضَاءِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الدَّارَ الْمَشْهُودَةَ قَدْ يُزَادُ فِيهَا وَيُنْقَصُ مِنْهَا وَلَا تَتَغَيَّرُ الشُّهْرَةُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَالْحَاجَةُ هُنَاكَ إلَى إعْلَامِ أَصْلِهِ وَبِالشُّهْرَةِ يَصِيرُ مَعْلُومًا وَلَوْ جَاءَ بِكِتَابِ قَاضٍ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ الَّذِي عِنْدَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ كَذَا كَذَا أَجَزْتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يُعْرَفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَالِكِهِ فَالنِّسْبَةُ إلَى الْأَبِ وَالْقَبِيلَةِ تَتَعَطَّلُ بِالرِّقِّ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَى مَالِكِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْمَمْلُوكِ لِمَالِكِهِ دُونَ أَبِيهِ.
فَإِذَا نَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ مَعْرُوفٍ بِالشُّهْرَةِ، أَوْ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فَقَدْ تَمَّ تَعْرِيفُهُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ نَسَبَ الْعَبْدَ إلَى عَمَلٍ أَوْ تِجَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا فَالتَّعْرِيفُ فِي الْحُرِّ يَحْصُلُ بِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ، وَإِنْ جَاءَ بِالْكِتَابِ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَهُمَا فِي الْقِيَاسِ سَوَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْآبِقِ مَا يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي، وَمَا لَا يُقْبَلُ.
(قَالَ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا كِتَابُ الْقُضَاةِ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ إلَّا فِي الْعَقَارِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ مَوْضِعِهِ.
فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَعْيَانِ لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى عَيْنِهِ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ شَرْطٌ؛ وَلِهَذَا لَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِهِ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَإِذَا أَتَى كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عِنْوَانٌ وَهُوَ مَخْتُومٌ بِخَاتَمِهِ فَشَهِدَتْ الشُّهُودُ أَنَّهُ كِتَابُهُ إلَيْهِ وَخَاتَمُهُ فَإِنَّهُ يَفْتَحُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِهِ عِنْوَانٌ فِيهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا مَحْكُومًا أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ.
فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِنْوَانٌ، وَقَدْ تَرَكَ بَعْضُ الْقُضَاةِ كَتْبَهُ الْعِنْوَانَ عَلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ لِغَرَضٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَى عِنْوَانِ الظَّاهِرِ اعْتِمَادٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ الْخَتْمُ فَإِنْ فَتَحَ الْكِتَابَ فَلَمْ يَكُنْ فِي دَاخِلِهِ اسْمُ الْكَاتِبِ وَالْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، أَوْ كَانَ فِيهِ اسْمُهُمَا دُونَ اسْمِ أَبِيهِمَا لَمْ يَقْبَلْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْبَلُ كِتَابَ الْقَاضِي إلَيْهِ وَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ مَعْلُومًا إلَّا بِالْعِنْوَانِ فِي دَاخِلِهِ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ تَعْرِيفُ الْكَاتِبِ وَالْمَكْتُوبِ إلَيْهِ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَا يَقْبَلُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِنْوَانَ الدَّاخِلَ عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ الْخَتْمِ يُؤْمَنُ فِيهِ تَغْيِيرُ ذَلِكَ.
فَإِذَا كَانَ فِيهِ تَعْرِيفًا تَامًّا يَقْبَلُ الْكِتَابَ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمَا وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمَا قَبِلَهُ إذَا شَهِدَتْ الشُّهُودُ عَلَى مَا فِي جَوْفِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ كِنَايَتُهُمَا دُونَ أَسْمَائِهِمَا لَمْ يَقْبَلْهُ فَالتَّعْرِيفُ لَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ عَلَى مَا قِيلَ الْمَكْنِيُّ بِأَكْنَى إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا كَشُهْرَةِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَحِينَئِذٍ يَقْبَلُ ذَلِكَ لِلشُّهْرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ فُلَانٍ إلَى ابْنِ فُلَانٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِهَذَا فَقَدْ يَنْسِبُ الْفُلَانَ إلَى الْأَبِ الْأَدْنَى، وَقَدْ يَنْسِبُ إلَى مَنْ فَوْقَهُ، وَقَدْ يَكُونُ لِابْنِهِ بَنُونَ سِوَاهُ فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا مِثْلَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ جَازَ ذَلِكَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِذِكْرِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ، وَلَوْ كَتَبَ اسْمَ الْقَاضِي وَنَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ وَلَمْ يَنْسِبْهُ إلَى أَبِيهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَبِ الْأَدْنَى فَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ حَقِيقَةً وَإِلَى الْجَدِّ مَجَازًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُنْفَى عَنْهُ بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى عِنْوَانِهِ أَسْمَاؤُهُمَا وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي دَاخِلِهِ؛ لِأَنَّ الْعِنْوَانَ الظَّاهِرَ لَيْسَ تَحْتَ الْخَتْمِ فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ.
وَلَوْ كَتَبَ الْقَاضِي إلَى الْأَمِيرِ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ وَهُوَ فِي الْمِصْرِ مَعَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، ثُمَّ اقْتَصَّ الْقِصَّةَ وَجَاءَ بِكِتَابِهِ مَعَهُ فَعَرَفَهُ الْأَمِيرُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي لَا يُثْبِتُ عِنْدَ الْأَمِيرِ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَالْمَكْتُوبِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ وَكَذَا لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ اسْمِ الْكَاتِبِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي الْمِصْرِ إلَى هَذَا فَإِنَّهُ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ فَيُخْبِرَ الْأَمِيرَ بِمَا يُرِيدُ إعْلَامَهُ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ لِلْأَمِيرِ أَنْ يُمْضِيَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ وَيَشُقُّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْتِيَ الْأَمِيرَ بِنَفْسِهِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ لِيُخْبِرَ بِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِذَلِكَ رَسُولًا ثِقَةً كَانَ عِبَارَةُ رَسُولِهِ كَعِبَارَتِهِ فِي حَقِّ جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ.
فَكَذَلِكَ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ بِذَلِكَ رُقْعَةً وَلَمْ يَجْرِ الرَّسْمُ بِمِثْلِهِ فِي الْكِتَابِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ آخَرَ فَشَرَطْنَا هُنَاكَ شَرَائِطَ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَيَجُوزُ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ مَعَ رَجُلٍ لِأَنَّهُ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، حُجَّةُ الْقَضَاءِ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْزُقُ سُلَيْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ عَنْ الْقَضَاءِ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي الْقَاضِيَ كِفَايَتَهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ كِفَايَتُهُ وَكِفَايَةُ عِيَالِهِ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ ثَرْوَةٍ فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ وَاحْتَسَبَ فِي عَمَلِ الْقَضَاءِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} وَالْآيَةُ فِي الْوَصِيِّ وَهُوَ يَعْمَلُ لِلْيَتِيمِ كَمَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَعْمَلُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَرَضُوا لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ أَوْصَى إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تَرُدَّ جَمِيعَ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْحَمُك اللَّهُ لَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَك وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْخُذُ كِفَايَتَهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَذَلِكَ كَانَ يَأْخُذُ كَمَا قَالَ إنَّ لِي مِنْ مَالِكُمْ كُلَّ يَوْمٍ قَصْعَةَ ثَرِيدٍ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَا يَأْخُذُ لِثَرْوَتِهِ، ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ مَالِي لَا أَرْتَزِقُ وَأَسْتَوْفِي مِنْهُ وَأُوفِيهِمْ أُصَبِّرُ لَهُمْ نَفْسِي فِي الْمَجْلِسِ وَأَعْدِلُ بَيْنَهُمْ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّ شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَرْزُقُهُ كُلَّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَرْزُقُهُ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عِيَالِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرُخْصِ سِعْرِ الطَّعَامِ وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَلَاءِ سِعْرِ الطَّعَامِ فَإِنَّ رِزْقَ الْقَاضِي لَا يَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَجْرٍ فَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا يُعْطَى كِفَايَتَهُ وَكِفَايَةَ عِيَالِهِ وَكَانَ بَعْضُ أَصْدِقَاءِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ لَوْ احْتَسَبْتَ قَالَ فِي جَوَابِهِ وَمَالِي لَا أَرْتَزِقُ فَبَيَّنَ أَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلِ الْقَضَاءِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْكِفَايَةِ.
فَإِذَا لَمْ يَرْتَزِقْ احْتَاجَ إلَى الرِّشْوَةِ فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ لِكَيْ لَا يَطْمَعَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ.
وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى الْكِنْدِيُّ كَانَ يَقْسِمُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدُّورَ وَالْأَرْضِينَ وَيَأْخُذُ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْقَاضِيَ يَتَّخِذُ قَاسِمًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ فِي الْمَوَارِيثِ إذَا بَيَّنَ الْإِبْصَارَ بِمَا يُطَالَبُ بِالْقِسْمَةِ لِيَتِمَّ بِهَا انْقِطَاعُ الْمُنَازَعَةِ وَهُوَ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ لَا يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ فَيَتَّخِذُ قَاسِمًا يَسْتَعِينُ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَتَّخِذُ كَاتِبًا الْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ كِفَايَةَ قَاسِمِ الْقَاضِي فِي بَيْتِ الْمَالِ كَكِفَايَةِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ مِنْ تَتِمَّةِ مَا انْتَصَبَ الْقَاضِي لَهُ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ أَمَرَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْقِسْمَةَ أَنْ يَسْتَأْجِرُوهُ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لَهُمْ عَمَلًا مَعْلُومًا، وَذَلِكَ الْعَمَلُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْقَاضِي فَالْقَضَاءُ يَتِمُّ بِبَيَانِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَالْقِسْمَةُ عَمَلٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ كَالْكِتَابَةِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْرِهَ النَّاسَ عَلَى قَسَّامِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُلْحِقُ بِهِ تُهْمَةَ الْمُوَاضَعَةِ مَعَ قَسَّامِهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَكْرَهَ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ يَتَحَكَّمُ قَسَّامُهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْأَجْرِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ وَأَيُّمَا قَوْمٌ اصْطَلَحُوا عَلَى قِسْمَةِ قَاسِمٍ آخَرَ جَازَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ صَغِيرٌ وَلَا غَائِبٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمْ فَاصْطِلَاحُهُمْ عَلَى قَاسِمٍ آخَرَ مِنْ جُمْلَةِ النَّظَرِ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ، أَوْ غَائِبٌ فَهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى رَأْي الْقَاضِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ وَالْغَائِبَ عَاجِزَانِ عَنْ النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمَا وَالْقَاضِي نَاظِرٌ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فَإِنْ أَمَرَهُمْ بِالْقِسْمَةِ، وَفِيهِمْ صَغِيرٌ أَوْ غَائِبٌ فَاسْتَأْجَرُوا قَسَّامًا غَيْرَ قَاسِمِهِ بِأَرْخَصَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي جَازَ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا وَأَلْزَمَهُمْ اسْتِئْجَارَ قَاسِمِهِ يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَجْرِ.
ثُمَّ أَجْرُ الْقَاسِمِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَصَاحِبِ النَّصِيبِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا الْأَجْرُ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْقِسْمَةِ وَإِنْ اتَّخَذَ الْقَاضِي جَمَاعَةً مِنْ الْقَسَّامِينَ فَذَلِكَ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ الْأُولَى أَنْ لَا يُشْرِكَ بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا يَتَحَكَّمُوا عَلَى النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَشْرَكَ بَيْنَهُمْ تَوَاضَعُوا عَلَى شَيْءٍ فَتَحَكَّمُوا عَلَى النَّاسِ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُشْرِكْ بَيْنَهُمْ يُؤْمَنُ عَلَيْهِمْ الْمَيْلُ إلَى الرِّشْوَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدُهُمْ أَظْهَرَهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.
وَإِذَا أَشْرَكَ بَيْنَهُمْ يَفُوتُ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَإِنْ قَاطَعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَدْخُلْ بِقَسْمٍ مَعَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ إذَا شَهِدَ قَاسِمَانِ عَلَى قِسْمَةٍ قَسَمَاهَا بَيْنَ قَوْمٍ بِأَمْرِهِ بِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ قَدْ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا، وَلِأَنَّهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ يَدَّعِيَانِ إيفَاءَ الْعَمَلِ الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِي ذَلِكَ بِإِيصَالِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَيْهِ وَالدَّعْوَى غَيْرُ الشَّهَادَةِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْفُسِهِمَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْخُصُومَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ وَفَّيَا الْعَمَلَ، وَإِنَّ الْعَقْدَ انْتَهَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَشْهَدَانِ عَلَى عَمَلِ أَنْفُسِهِمَا؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمَا التَّمْيِيزُ وَالْمَشْهُودُ بِهِ اسْتِيفَاءُ كُلِّ إنْسَانٍ نَصِيبَهُ، وَذَلِكَ فِعْلُ الْمُسْتَوْفِي.
وَلَوْ شَهِدَ قَاسِمٌ وَاحِدٌ عَلَى الْقِسْمَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقَاسِمَ لَيْسَ بِقَاضٍ وَالْقَاضِي هُوَ الْمَخْصُوصُ بِأَنْ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ فِي الْإِلْزَامِ.
فَأَمَّا الْقَاسِمُ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ كَغَيْرِهِ فَلَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، وَكَذَلِكَ أَمِينُ الْقَاضِي إذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يَدْفَعَ مَالًا فَقَالَ قَدْ دَفَعْته، وَأَنْكَرَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ فَالْأَمِينُ يُصَدَّقُ فِي نَزَاهَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَذْكُرُ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ قَبَضَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاضٍ فَالْحُجَّةُ لَا تَتِمُّ بِقَوْلِهِ وَأَيُّمَا رَجُلٍ ادَّعَى غَلَطًا فِي الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ لَا تُعَادُ لَهُ الْقِسْمَةُ، وَلَكِنَّهُ يُسْأَلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ الْغَلَطِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْمُعَادِلَةُ فِي الْقِسْمَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَاسِمَ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِي ذَلِكَ فَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ قَاسِمًا ذِمِّيًّا وَلَا مَمْلُوكًا وَلَا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَلَا أَعْمَى وَلَا فَاسِقًا وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْكَاتِبِ.
فَكَذَلِكَ فِي الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنُوبُ عَنْ الْقَاضِي فِيمَا يَكُونُ مِنْ تَتِمَّةِ عَمَلِهِ، وَقَدْ تَحْتَاجُ الْخُصُومُ إلَى شَهَادَةِ الْقَاسِمِ فَلَا يُخْتَارُ لِذَلِكَ الْأَمْرِ إلَّا مَنْ يَكُونُ أَهْلًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَمْ يَرُدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ وَجَدَ النَّاسُ لِذَلِكَ مَقَالًا فِي الْقَاضِي يَقُولُونَ لِمَ اخْتَرْته إذَا كُنْتَ لَا تَعْتَمِدُ قَوْلَهُ وَإِذَا رَأَى الْقَاضِي وَهُوَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، أَوْ غَيْرِهِ رَجُلًا يَزْنِي أَوْ يَسْرِقُ، أَوْ يُشْرِبُ الْخَمْرَ، ثُمَّ رُفِعَ إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِاكْتِسَابِهِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ الَّذِي اسْتَفَادَهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ فَوْقَ الْعِلْمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ حَتَّى لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عِنْدَهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ، أَوْ يُقِرُّ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ، ثُمَّ وُلِّيتَ هَلْ تُقِيمُهُ عَلَيْهِ قَالَ لَا حَتَّى يَشْهَدَ مَعِي غَيْرِي فَقَالَ أَصَبْتَ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ الَّتِي هِيَ مِنْ خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَوْفِيهَا الْإِمَامُ عَلَى سَبِيلِ النِّيَابَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خَصْمٌ يُطَالِبُ بِهِ مِنْ الْعِبَادِ فَلَوْ اكْتَفَى بِعِلْمِ نَفْسِهِ فِي الْإِقَامَةِ رُبَّمَا يَتَّهِمُهُ بَعْضُ النَّاسِ بِالْجَوْرِ وَالْإِقَامَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقِصَاصِ وَحْدِ الْقَذْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ خَصْمٌ يُطَالِبُ بِهِ مِنْ الْعِبَادِ وَبِوُجُودِهِ تَنْتَفِي التُّهْمَةُ عَنْ الْقَاضِي فَكَانَ مُصَدَّقًا فِيمَا زَعَمَ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُقِرَّ بِالْحُدُودِ الَّتِي هِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا رَجَعَ صَحَّ رُجُوعُهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ بَيْنَ خَبَرَيْهِ.
فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ، وَأَنْكَرَهُ الرَّجُلُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ أَمِينٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا ضَمَّنَهُ فِي السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَلَا يَعْمَلُ الرُّجُوعُ فِيهِ عَنْ الْإِقْرَارِ فَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ وَالرُّجُوعِ فِيهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ وَلِلْقَاضِي أَنْ يُلْزِمَهُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ.
فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ بِمُعَايَنَتِهِ سَبَبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُعَايَنَتَهُ السَّبَبَ أَقْوَى فِي إفَادَةِ الْعِلْمِ مِنْ إقْرَارِ الْمُقِرِّ بِهِ، وَهَذَا إذَا رَأَى ذَلِكَ فِي مِصْرِهِ الَّذِي هُوَ قَاضٍ فِيهِ بَعْدَ مَا قُلِّدَ الْقَضَاءَ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ رَأَى ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ، ثُمَّ اسْتَقْصَى فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَا يَخْتَلِفُ بِمَا بَعْدَ أَنْ يَسْتَقْصِيَ وَقَبْلَهُ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فَإِنَّ مُعَايَنَةَ السَّبَبِ تُفِيدُهُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَشَهَادَةُ الشُّهُودِ لَا تُفِيدُهُ ذَلِكَ.
فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِ نَفْسِهِ أَوْلَى وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ أَتَى شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلَهَا، وَأَنَا شَاهِدٌ فَقَالَ أَنْتَ الْأَمِيرُ حَتَّى أَشْهَدَ لَك فَقَالَ أَنْشُدُك بِاَللَّهِ أَنْ يَذْهَبَ حَقِّي، وَأَنْتَ تَعْلَمُ فَقَالَ أَنْتَ الْأَمِيرُ حَتَّى أَشْهَدَ لَك وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ حِينَ عَايَنَ السَّبَبَ فَقَدْ اسْتَفَادَ بِهِ عِلْمَ الشَّهَادَةِ وَبِأَنْ اسْتَقْصَى بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَزْدَادُ عِلْمُهُ بِذَلِكَ وَعِلْمُ الْقَضَاءِ فَوْقَ عِلْمِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ عِلْمَ الْقَضَاءِ مُلْزِمٌ وَالشَّهَادَةُ بِدُونِ الْقَضَاءِ لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً بِخِلَافِ مَا إذَا رَأَى وَهُوَ قَاضٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ عِلْمَ الْقَضَاءِ هُنَاكَ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ مَا يَسْتَفِيدُ مِنْ الْعِلْمِ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ وَمَا يَسْتَفِيدُهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، ثُمَّ شَهَادَةُ الشُّهُودِ عِنْدَهُ بَعْدَ مَا اسْتَقْصَى تُفِيدُهُ عِلْمَ الْقَضَاءِ وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَقْصِيَ لَا تُفِيدُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ اسْتَقْصَى شَاهِدُ الْفَرْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا كَانَ مِنْ شَهَادَةِ الْأُصُولِ عِنْدَهُ مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ بَعْدَ مَا اسْتَقْصَى.
فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ السَّبَبِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ عَايَنَ السَّبَبَ بَعْدَ مَا اسْتَقْصَى، وَلَكِنْ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ، ثُمَّ لَمَّا انْتَهَى إلَى مِصْرِهِ خُوصِمَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَايَنَ السَّبَبَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَهُوَ، وَمَا لَوْ عَلِمَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْصِيَ سَوَاءٌ، وَلَوْ عَايَنَ ذَلِكَ فِي مِصْرِهِ وَهُوَ قَاضٍ، ثُمَّ عُزِلَ، ثُمَّ أُعِيدَ عَلَى الْقَضَاءِ فَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنْ قَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ عِلْمَ الْقَضَاءِ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ حَتَّى لَوْ قَضَى بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جَازَ ذَلِكَ.
فَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِهِ بَعْدَ مَا قُلِّدَ ثَانِيًا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا عُزِلَ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ إلَّا عِلْمُ الشَّهَادَةِ فَهُوَ، وَمَا لَوْ عَلِمَ بِهِ بَعْدَ مَا عُزِلَ سَوَاءٌ.
تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ سَمِعَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ فَلَمْ يَقْضِ بِهَا حَتَّى عُزِلَ، ثُمَّ أُعِيدَ عَلَى الْقَضَاءِ لَمْ يَقْضِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْعَزْلِ.
فَكَذَلِكَ إذَا عَايَنَ السَّبَبَ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إذَا عَلِمَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْصِيَ، ثُمَّ اسْتَقْصَى فَشَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ وَأَخَذَ بِذَلِكَ قَضَى بِهِ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ كَانَ عَلِمَ مِنْهَا عِلْمًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ عِلْمُهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ وَإِكْمَالُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَا يُمْكِنُ وَالْقَاضِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ إلَّا بِحُجَّةٍ فَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ الرَّجُلِ الْآخَرِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ عِنْدَ الْإِمَامِ الَّذِي فَوْقَهُ حَتَّى يَقْضِيَ هُوَ بِذَلِكَ.
وَإِذَا دَفَعَ الْقَاضِي مَالَ الْيَتِيمِ إلَى تَاجِرٍ فَجَحَدَهُ التَّاجِرِ فَالْقَاضِي مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ عَلَى التَّاجِرِ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ قَاضٍ فِيمَا يَفْعَلُهُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَفِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْقَضَاءِ هُوَ مُصَدَّقٌ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ مَالَ مَيِّتٍ فِي دَيْنِهِ فَلَا عُهْدَةَ عَلَى الْقَاضِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ مِنْ الْقَضَاءِ وَهُوَ فِيمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ يَكُونُ خَصْمًا لَا قَاضِيًا.
وَإِذَا انْتَفَتْ التُّهْمَةُ عَنْهُ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَى مَنْ وَقَعَ عَمَلُهُ لَهُمْ فَإِنْ جَحَدَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ الْبَيْعَ قَاضَاهُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ الْيَمِينَ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي بَاشَرَ السَّبَبَ، وَكَذَلِكَ هُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا ذَكَرَ أَنَّهُ قَضَى بِهِ مِنْ قِصَاصٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ طَلَاقٍ، أَوْ عَتَاقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِذَلِكَ عِنْدِي، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ وَيَسَعُ لِلَّذِي سَمِعَ مِنْ الْقَاضِي ذَلِكَ أَنْ يَعْتَمِدَ قَوْلَهُ حَتَّى فِي الرَّجْمِ وَالنَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ.
وَقَالَ فِي الْحُدُودِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يَسَعُ السَّامِعَ إقَامَةُ ذَلِكَ بِمُجَرِّدِ قَوْلِ الْقَاضِي مَا لَمْ يُخْبِرْهُ بِذَلِكَ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَرَجَةُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَلَا تَبْلُغُ دَرَجَةُ الْقَاضِي دَرَجَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحُرْمَةُ النَّفْسِ عَظِيمَةٌ وَالْغَلَطُ فِيهَا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَلَا يَسَعُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْقَاضِي وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْقَاضِي مُلْزِمٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مُبَاشَرَتَهُ الْقَضَاءَ قَوْلٌ مُلْزِمٌ.
فَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ بِالْقَضَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَقْصِي فِي كُلِّ بَلْدَةٍ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَلَوْ كَانَتْ الْحُجَّةُ لَا تَتِمُّ بِمُجَرَّدِ خَبَرِ الْقَاضِي بِهِ لَجَرَى الرَّسْمُ بِإِيجَادِ الْقَاضِينَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ لِصِيَانَةِ الْحُقُوقِ كَمَا جَرَى الرَّسْمُ بِهِ فِي الشُّهُودِ، وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِقَاضٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْقَاضِي حُجَّةٌ تَامَّةٌ.
وَلَوْ عُزِلَ عَنْ الْقَضَاءِ فَخَاصَمَهُ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَقَالَ إنَّمَا قَضَيْتُ بِهِ عَلَيْك كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَسْئُولٍ بِبَيِّنَةٍ وَلَا مُسْتَحْلَفٍ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْخُصُومَةَ وَالضَّمَانَ عَنْهُ فَيَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْزَلَ قَالَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ قَوْلِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَفْسَرَ إذَا كَانَ فَقِيهًا وَرِعًا فَالْوَرَعُ يُؤَمِّنُنَا مِنْ جَوْرِهِ وَمَيْلِهِ إلَى الرِّشْوَةِ وَفِقْهُهُ يُؤَمِّنُنَا مِنْ أَنْ يَغْلَطَ فِي ذَلِكَ.
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسْتَفْسَرَ، وَإِنْ كَانَ وَرِعًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَغْلَطُ لِقِلَّةِ فَهْمِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فَقِيهًا وَلَمْ يَكُنْ وَرِعًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسْتَفْسَرَ؛ لِأَنَّهُ لِقِلَّةِ وَرَعِهِ رُبَّمَا جَارَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَضْرِبَ فِي الْمَسْجِدِ حَدًّا وَلَا تَعْزِيرًا وَلَا يَقْتَصُّ لِأَحَدٍ مِنْ أَحَدٍ عِنْدَنَا (وَقَالَ) الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِقَامَةِ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَالْمَسَاجِدُ أُعِدَّتْ لِذَلِكَ، ثُمَّ هُوَ مِنْ تَتِمَّةِ قَضَائِهِ.
وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ كَانَ لَهُ أَنْ يُتِمَّ الْقَضَاءَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهَا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ»، وَفِي حَدِيثِ مَكْحُولٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَطَهِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ وَاجْعَلُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ» وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِأَنْ يُعَذَّرَ رَجُلٌ.
وَقَالَ لِلَّذِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ أَخْرِجْهُ مِنْ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ اضْرِبْهُ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِإِقَامَةِ حَدٍّ عَلَى أَحَدٍ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ وَرَفْعُ صَوْتِ الْمَضْرُوبِ بِالْأَنِينِ عِنْدَ الضَّرْبِ وَالْمَسْجِدُ يُتَنَحَّى عَنْ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ الْقَاضِي لِيُقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ يَبْعَثَ نَائِبًا، أَوْ يَجْلِسَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ وَيَأْمُرَ بِالْإِقَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَرَى ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا بَاعَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، أَوْ اشْتَرَى لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى خَصْمِهِ وَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ قَاضِيًا، وَفِيمَا يَفْعَلُهُ عَلَى غَيْرِ سَبِيلِ الْحُكْمِ هُوَ كَسَائِرِ الرَّعَايَا.
(أَلَا تَرَى) «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْكَرَ الْأَعْرَابِيُّ اسْتِيفَاءَ ثَمَنِ النَّاقَةِ مِنْهُ وَقَالَ هَلُمَّ شَاهِدًا قَالَ لَمْ يَشْهَدْ لِي حَتَّى شَهِدَ خُزَيْمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» الحديث إذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ عَنْ الْكَذِبِ فَمَا ظَنُّك فِي الْقَاضِي وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِشَيْءٍ لِنَفْسِهِ وَلَا لِوَلَدِهِ وَنَوَافِلِهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَلَا لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ مِنْ قِبَلِهِمَا وَلَا لِزَوْجَتِهِ وَلَا لِمُكَاتَبِهِ وَمَمَالِيكِهِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ فَوْقَ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ.
وَإِذَا لَمْ يَجُزْ شَهَادَتُهُ لِهَؤُلَاءِ فَلِئَلَّا يَجُوزَ قَضَاؤُهُ لَهُمْ أَوْلَى وَأَمَّا مَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ مِنْ الْقَرَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فَقَضَاؤُهُ لَهُمْ جَائِزٌ كَمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ وَإِذَا عُزِلَ عَنْ الْقَضَاءِ، ثُمَّ قَالَ كُنْتُ قَضَيْتُ لِهَذَا عَلَى هَذَا بِكَذَا وَكَذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَاءَهُ، وَهَذَا قَوْلٌ مُلْزِمٌ وَهُوَ بَعْدَ الْعَزْلِ كَغَيْرِهِ مِنْ الرَّعَايَا فَلَا يَكُونُ قَوْلًا مُلْزِمًا، وَإِنْ شَهِدَ مَعَ آخَرَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَلَا شَهَادَةَ لِلْإِنْسَانِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى قَضَائِهِ شَاهِدَانِ سِوَاهُ لِيَتَمَكَّنَ الْمَوْلَى بَعْدَهُ مِنْ إمْضَائِهِ وَإِذَا رُفِعَ قَضَاءُ الْقَاضِي بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ عَزْلِهِ إلَى قَاضٍ يَرَى خِلَافَ رَأْيِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ أَمْضَاهُ لِإِجْمَاعِ النَّاسِ عَلَى نُفُوذِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ فَلَوْ أَبْطَلَهُ الْقَاضِي الثَّانِي كَانَ هَذَا مِنْهُ قَضَاءً بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ خَطَأً لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ أَبْطَلَهُ؛ لِأَنَّهُ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ، أَوْ النَّصِّ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَضَاءِ نَفْسِهِ أَبْطَلَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَ رَأْيُهُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ.
فَكَذَلِكَ يَفْعَلُهُ الْمَوْلَى بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ فَظًّا غَلِيظًا جَبَّارًا عَنِيدًا؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ مَا هُوَ مُنْتَفٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا»، وَفِي صِفَتِهِ فِي التَّوْرَاةِ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ فَصَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ أَوْصَافٌ مَذْمُومَةٌ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْهَا وَهُوَ سَبَبٌ لِنَفْرَةِ النَّاسِ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} الْآيَةَ وَالْقَاضِي مَنْدُوبٌ إلَى اكْتِسَابِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِمَيْلِ الْقُلُوبِ إلَيْهِ وَالِاجْتِمَاعِ إلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِمْ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَدَّ حَتَّى يَسْتَنْطِقَ الْحَقَّ فَلَا يَدَعُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ غَيْرِ جَبْرٍ بِهِ، وَأَنْ يَلِينَ حَيْثُ يَنْبَغِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ وَلَا يَتْرُكَ شَيْئًا مِنْ الْحَقِّ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَا يَصْلُحُ لِهَذَا الْأَمْرِ إلَّا اللَّيِّنُ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ الْقَوِيُّ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلِينُ فِي الْأُمُورِ وَيَرْفُقُ حَتَّى يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَكُونَ مِنْ أَشَدِّهِمْ فِي ذَلِكَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَذَّرَ إلَى كُلِّ مَنْ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ شَيْءٌ إذَا قَضَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يُفَسِّرَ لِلْخَصْمِ وَيُبَيِّنَ لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ فَهِمَ عَنْهُ حُجَّتَهُ وَقَضَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَا فَهِمَ وَبِذَلِكَ تَنْتَفِي عَنْهُ تُهْمَةُ الْمَيْلِ وَيَنْقَطِعُ عَنْهُ طَمَعُ الْخَصْمِ وَالْعَالَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ يَصُونُ بِذَلِكَ الْخُصُومَ عَنْ الْفِتْنَةِ وَالشِّكَايَةِ مِنْهُ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَّا أَنْ لَا يَتْرُكَ جَهْدَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي أَمَانَتِهِ إلَّا نَادِرًا فَيَتَقَدَّمُ الْقَاضِي إلَى أَعْوَانِهِ وَالْقُوَّامِ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْحَقِّ وَالشِّدَّةِ عَلَى النَّاسِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضَعُوا فَيُقَصِّرُوا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَنْبَغِي؛ لِأَنَّهُمْ يَنُوبُونَ عَنْهُ فِيمَا فَوَّضَ إلَيْهِمْ فَكَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يَأْمُرُ بِهِ أَعْوَانَهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبُ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ.
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا الْمَوْثُوقُ بِهِ فِي عَفَافِهِ وَصَلَاحِهِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَوُجُوهِ الْفِقْهِ الَّتِي يَأْخُذُ مِنْهَا الْكَلَامَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ رَأْيٍ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالسُّنَّةِ وَالْأَحَادِيثِ فَمِثْلُهُ يَضِلُّ النَّاسَ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَيُسْأَلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَلَا صَاحِبَ حَدِيثٍ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالْفِقْهِ فَقَدْ شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَاحِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَعِيَ مَا سَمِعَهُ، أَوْ لَا يَقُولَهُ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى غَيْرِ فَقِيهٍ وَرَبُّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِصَاحِبِهِ وَالْإِمَامُ مَأْمُورٌ بِأَنْ لَا يُقَلِّدَ أَحَدًا شَيْئًا مِنْ عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا إذَا عَلِمَ صَلَاحَهُ لِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قَلَّدَ غَيْرَهُ عَمَلًا، وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَخَانَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ» وَعَمَلُ الْقَضَاءِ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ وَأَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُخْتَارُ لَهُ إلَّا مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ مُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ.
وَإِذَا كَانَ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ مَنْ لَا يُعْرَفُ بِالْأَمَانَةِ أَوْ يَعْجَزُ عَنْ أَدَائِهَا فَلِئَلَّا يُؤْتَمَنَ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ أَوْلَى فَكَمَا لَا يُخْتَارُ لِلْقَضَاءِ إلَّا مَنْ يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الشَّرَائِطُ.
فَكَذَلِكَ لِلْفَتْوَى فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُفْتِي، وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُسَمَّى مُفْتِيًا فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ إلَّا مَنْ كَانَ هَكَذَا إلَّا أَنْ يُفْتِيَ شَيْئًا قَدْ سَمِعَهُ فَيَكُونَ حَاكِيًا مَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّاوِي لِحَدِيثٍ سَمِعَهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّاوِي مِنْ الْعَقْلِ وَالضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ وَالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ كَلَامٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فِي الرَّاوِي مِنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ، وَمَا مِنْ مَوْجُودٍ فِي الدُّنْيَا إلَّا وَهُوَ مُعْتَبَرٌ لِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ.
فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ مِنْ الْكَلَامِ الْبَيَانَ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعَقْلِ عَرَفْنَا أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْمُخْبِرِ شَرْطٌ وَالضَّبْطُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْخَبَرِ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الضَّبْطُ وَالْفَهْمُ وَالْعَدَالَةُ إلَّا بِذَلِكَ فَرُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ بِالْعَدَالَةِ يَكُونُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْزَجِرْ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي دِينِهِ لَا يَنْزَجِرُ عَنْ الْكَذِبِ أَيْضًا وَاشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الدِّينِ وَهُمْ يُعَادُونَ الدِّينَ الْحَقَّ وَيَسْعَوْنَ فِي هَدْمِهِ بِمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَشَرَطْنَا الْإِسْلَامَ لِذَلِكَ، وَبَعْدَ مَا اُسْتُجْمِعَ فِي الْقَاضِي هَذِهِ الشَّرَائِطُ لَا يُوَلَّى الْقَضَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْقَضَاءِ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْعِلْمُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ وَلِسَانِهِمْ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَالْقَاضِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ تَنْفِيذُ بَعْضِ الْقَضَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ وَلَا يُوَلَّى الْقَضَاءُ أَعْمَى وَلَا مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ وَلَا مُكَاتَبٌ وَلَا عَبْدٌ يَسْعَى فِي شَيْءٍ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ لَا تُقْبَلُ وَالْقَضَاءُ أَعْظَمُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَلَا يُوَلَّى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْقَضَاءِ كِتَابَةً وَلَا مَسَائِلِهِ لِظُهُورِ الْخِيَانَةِ مِنْهُمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالسَّعْيِ فِي إفْسَادِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا سَافَرَ، أَوْ مَرِضَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إلَّا بِأَمْرِ الْإِمَامِ الَّذِي هُوَ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ قَلَّدَهُ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرَّأْيِ وَالْقَضَاءُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الرَّأْيِ فَلَا يَسْتَخْلِفُ إلَّا بِأَمْرِ مَنْ قَلَّدَهُ كَالْوَكِيلِ لَا يُوَكِّلُ غَيْرَهُ إلَّا بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاضِي وَالْمَأْمُورِ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي الِاسْتِخْلَافِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
فَإِذَا اسْتَخْلَفَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ قَضَاءُ خَلِيفَتِهِ إلَّا أَنْ يُنْفِذَ هُوَ قَضَاءَ خَلِيفَتِهِ فَحِينَئِذٍ يُنْفِذُهُ كَمَا لَوْ قَضَى بِهِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ نُفُوذَهُ بِرَأْيِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ حَتَّى بَاشَرَ التَّصَرُّفَ، ثُمَّ أَجَازَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَعَلَ إجَازَتَهُ كَإِنْشَائِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حُكِّمَ حَكَمًا بَيْنَ خَصْمَيْنِ فَهَذَا وَالِاسْتِخْلَافُ سَوَاءٌ وَقِيلَ هَذَا كُلُّهُ إذَا فَعَلَهُ خَلِيفَتُهُ لَا بِحَضْرَتِهِ فَإِنْ فَعَلَهُ بِحَضْرَتِهِ جَازَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِرَأْيِهِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ حَتَّى بَاعَ بِحَضْرَتِهِ، وَإِنْ الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَاسْتَشَارَ فِيهِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعِفَّةِ وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ فَأَنْفَذَهُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَاضِيَ فِيمَا يَعْجَزُ عَنْهُ يَسْتَعِينُ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ عَلِمَ ذَلِكَ.
وَإِنْ طَمِعَ الْقَاضِي فِي أَنْ يُصْلِحَ الْخَصْمَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرُدَّهُمَا وَيُؤَخِّرَ تَنْفِيذَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا لَعَلَّهُمَا أَنْ يَصْطَلِحَا لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورَثُ بَيْنَ الْقَوْمِ الضَّغَائِنَ، وَفِي رِوَايَةٍ رُدُّوا الْخُصُومَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، أَوْ مَرَّتَيْنِ إنْ طَمِعَ فِي الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ إضْرَارٌ بِصَاحِبِ الْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي الصُّلْحِ أَنْفَذَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ انْتَصَبَ لِذَلِكَ، وَإِنْ أَنْفَذَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرُدَّهُمْ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ رَدُّهُمْ إنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مَا قُلِّدَ مِنْ الْعَمَلِ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْحُجَّةِ، وَقَدْ أَتَى بِذَلِكَ وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ حُجَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ حُجَّتَيْنِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بَيْنَ النَّاسِ بِالتَّسْوِيَةِ.
وَإِذَا سَمِعَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ حُجَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا أَضَرَّ بِذَلِكَ بِسَائِرِ النَّاسِ إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَلِيلًا وَلَا يَشْغَلَهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَكَانَ يَفْرُغُ مِنْ حَوَائِجِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ فَلَا بَأْسَ بِهِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّمَ رَجُلًا قَدْ جَاءَ رَجُلٌ غَيْرُهُ قَبْلَهُ لِفَضْلِ مَنْزِلَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَكِنْ يُقَدِّمُهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ؛ لِأَنَّ الَّذِي سَبَقَ بِالْحُضُورِ قَدْ اسْتَحَقَّ النَّظَرَ فِي حَاجَتِهِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِحُضُورِ غَيْرِهِ كَيْفَ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ تَوَاضَعَ لِغَنِيٍّ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ»، وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا قَالَ {وَاصْبِرْ نَفْسَك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الْآيَةَ وَنَظَرُ الْقَاضِي لَهُمْ بِسَبَبِ الدِّينِ، وَفِي ذَلِكَ السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فَإِنَّمَا يُقَدِّمُهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ بِمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ أَصْلِ بَعْضِ مَسَائِلِ التَّحْكِيمِ وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ فَنَذْكُرُ هُنَا مِقْدَارَ مَا ذُكِرَ فَنَقُولُ الْحَكَمُ فِيمَا بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ الْمُوَلَّى حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ لِلشَّهَادَةِ.
فَإِذَا كَانَ أَعْمَى، أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، أَوْ عَبْدًا، أَوْ مُكَاتَبًا لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَحْكُمُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ اصْطِلَاحِ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِتَرَاضِيهِمَا صَارَ حَكَمًا حَتَّى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَا لَمْ يَمْضِ فِيهِ الْحُكْمُ وَالْحُكُومَةُ.
فَإِذَا أَمْضَاهَا فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا كَمَا فِي الصُّلْحِ.
وَلَوْ دُفِعَ حُكْمُ الْحَاكِمِ إلَى الْقَاضِي فَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ وَوَافَقَ رَأْيَهُ أَمْضَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَضَهُ احْتَاجَ إلَى إعَادَتِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوَافِقُ الْحَقَّ أُبْطِلَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَأْيُهُ لَا يُوَافِقُ رَأْيَهُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُهُ بِمَنْزِلَةِ إصْلَاحِ الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّ رِضَاهُمَا بِحُكْمِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةَ الْإِلْزَامِ فِي حَقِّ الْقَاضِي.
وَإِنْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ فَحَكَمَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِرَأْيِهِمَا وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمَثْنَى وَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَسَائِرِ الرَّعَايَا بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَاهُ.
وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْحَكَمِ أَنْ يَقْضِيَ فِي إقَامَةِ حَدٍّ، أَوْ تَلَاعُنٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ اصْطِلَاحَ الْخَصْمَيْنِ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَمَا يَحْكُمُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ اصْطِلَاحِ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ وَاللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي حَقِّ الشَّرْعِ فَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ إلَّا مَنْ يُعَيَّنُ ثَانِيًا وَعَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ الْقُضَاةُ وَالْأَئِمَّةُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَا يُقِيمُهُ عَلَى نَفْسِهِ.
فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يُقِيمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا تَعَيَّنَ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.