فصل: بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ كُلَّ شَهْرٍ يَعْمَلُ بِهَا فَهُوَ فَاسِدٌ، وَكَذَلِكَ الدَّنَانِيرُ وَكُلُّ مَوْزُونٍ، أَوْ مَكِيلٍ)؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالْإِجَارَةِ اسْتِهْلَاكَ الْعَيْنِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ فَمَحَلُّ الْإِجَارَةِ مَنْفَعَةٌ تَنْفَصِلُ عَنْ الْعَيْنِ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَمْوَالِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ تَنْفَصِلُ عَنْ الْعَيْنِ وَبِدُونِ الْمَحَلِّ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ وَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا صَارَ لَغْوًا بَقِيَ مُجَرَّدُ الْإِذْنِ فَكَأَنَّهُ أَعَارَهُ إيَّاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَارِيَّةَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَرْضٌ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِيَزِنَ بِهَا يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ حِنْطَةً مُسَمَّاةً يُعَيِّرُ بِهَا مَكَايِيلَ لَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ جَائِزٌ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِيلَ مَا رَوَاهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيُعَيِّرَ بِهَا مِكْيَالًا بِغَيْرِ عَيْنِهَا، وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيُعَيِّرَ بِهَا مَكِيلًا لَا بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا وَقِيلَ بَلْ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَجْهُ مَا قَالَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِانْتِفَاعِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهَذِهِ الْأَعْيَانِ.
وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودَةٌ مِنْهَا فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِئْجَارُهَا لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ مِنْهَا أَوْلَى وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا سُمِّيَ عَمَلًا يَعْمَلُ بِالْمُسْتَأْجَرِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَإِنَّ الْوَزْنَ بِالدَّرَاهِمِ عَمَلٌ مَقْصُودٌ كَالْوَزْنِ بِالْحَجَرِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حَجَرًا لِيَزِنَ بِهِ يَوْمًا جَازَ.
فَكَذَلِكَ الدَّرَاهِمُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ كَوْنُهُ مُتَضَمِّنًا اسْتِهْلَاكَ الْعَيْنِ لَوْ صَحَّ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِتَسْمِيَةِ مَنْفَعَةٍ تُسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَهُوَ مَقْصُودٌ فِي النَّاسِ، أَوْ كَالْإِنَاءِ يَسْتَأْجِرُهُ لِيَعْمَلَ بِهِ أَوْ الثَّوْبِ لِيَلْبَسَهُ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ نَصِيبًا فِي أَرْضٍ غَيْرِ مُسَمَّاةٍ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالدَّابَّةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ هُوَ جَائِزٌ وَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا عُلِمَ النَّصِيبُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي آخِرِ الشُّفْعَةِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ كَمْ نَصِيبُهُ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ.
وَقَالَ يَجُوزُ فَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَمَرَّ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ حَيْثُ لَمْ يُجَوِّزْ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ فِي النَّصِيبِ الْمَجْهُولِ وَمَسْأَلَةُ الْإِجَارَةِ لَهُ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى إجَارَةِ الْمُشَاعِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِجَارَةُ فِي النَّصِيبِ الشَّائِعِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا.
فَإِذَا كَانَ مَجْهُولًا أَوْلَى وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَمَرَّ عَلَى مَذْهَبِهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ جَوَّزَ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ فِي نَصِيبِ الْعَاقِدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِلْأَجِيرِ عِنْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ إعْلَامَهُ مُمْكِنٌ بِالرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ الْمُوجِبِ وَمِنْ أَصْلِهِ أَيْضًا جَوَازُ الْإِجَارَةِ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.
وَقَالَ فِي الْبَيْعِ الثَّمَنُ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَلَوْ صَحَّ الْعَقْدُ وَجَبَ الثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ مَجْهُولٍ، وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نَصِيبُ الْمُؤَاجِرِ مَعْلُومٌ فَإِنَّمَا يَجِبُ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ الْمَعْلُومِ وَمِنْ أَصْلِهِ جَوَازُ الْإِجَارَةِ فِي الْمُشَاعِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ مِائَةَ ذِرَاعٍ مُكَسَّرَةً مِنْ هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ أَجَّرَ مِائَتَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِهِمَا وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ إذَا بَاعَ مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الذِّرَاعَ اسْمٌ لِبُقْعَةٍ مَعْلُومَةٍ يَقَعُ عَلَيْهَا الذَّرْعُ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ فِي الدَّارِ فَكَمَا لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ صَحِيحًا بِهَذَا اللَّفْظِ.
فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ وَعِنْدَهُمَا ذِكْرُ الذِّرَاعِ كَذِكْرِ السَّهْمِ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِهِ الْبَيْعُ صَحِيحًا.
فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ أَيْضًا فِي إجَارَةِ الْمُشَاعِ وَلَا يَجُوزُ إجَارَةُ الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ عَيْنٌ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الْوُجُودِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ الْإِجَارَةِ مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الْوُجُودِ، وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ عَرْضٌ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا وَالثَّمَرَةُ تَقُومُ بِنَفْسِهَا كَالشَّجَرَةِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الشَّجَرَةَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ.
فَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ، وَلِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إبْقَائِهِ فَرُبَّمَا تُصِيبُ الثَّمَرَةَ آفَةٌ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْبَشَرِ اتِّخَاذُهَا، وَكَذَلِكَ أَلْبَانُ الْغَنَمِ وَصُوفُهَا وَسَمْنُهَا وَوَلَدُهَا كُلُّ ذَلِكَ عَيْنٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ فَلَا يُتَمَلَّكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ وَرَطْبَةٌ، أَوْ شَجَرٌ، أَوْ قَصَبٌ، أَوْ كَرْمٌ، أَوْ مَا يَمْنَعُ مِنْ الزِّرَاعَةِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ لِمَنْفَعَةِ الزِّرَاعَةِ وَهَذِهِ الْمَنْفَعَةُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مَعَ هَذِهِ الْمَوَانِعِ فَقَدْ الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُسْتَأْجِرِ مَا فِيهَا فَهُوَ عَيْنٌ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْإِجَارَةِ.
وَلَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْآجَامِ وَالْأَنْهَارِ لِلسَّمَكِ وَلَا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اسْتِحْقَاقُ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ السَّمَكَ صَيْدٌ مُبَاحٌ فَكُلُّ مَنْ أَخَذَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُؤَاجِرِ بِالْإِجَارَةِ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ، وَلِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ بِهِ فَإِنْ أَجَّرَهَا لِلزِّرَاعَةِ فَهِيَ لَيْسَتْ بِصَالِحَةٍ لِذَلِكَ، وَإِنْ أَجَّرَهَا لِلسَّمَكِ فَرُبَّمَا يَجِدُهُ الْمُسْتَأْجِرُ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْآخَرِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بِئْرًا شَهْرَيْنِ لِيَسْقِيَ مِنْهَا أَرْضَهُ وَغَنَمَهُ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ النَّهْرُ وَالْعَيْنُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَاءُ وَهُوَ عَيْنٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَمَلَّكَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّ الْمَاءَ أَصْلُ الْإِبَاحَةِ مَا لَمْ يُحْرِزْهُ الْإِنْسَانُ بِإِنَائِهِ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ كَافَّةً قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي الثَّلَاثِ فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ» فَالْمُسْتَأْجِرُ فِيهِ وَالْآخَرُ سَوَاءٌ؛ فَلِهَذَا لَا يُسْتَوْجَبُ عَلَيْهِ أَجْرٌ بِسَبَبِهِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ نَهْرًا لِيُجْرِيَ فِيهِ شِرْبًا لَهُ إلَى أَرْضِهِ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَالَ أَرَأَيْت لَوْ اسْتَأْجَرَ مَسِيلَ مَاءٍ عَلَى سَطْحٍ لِيَسِيلَ مَا أَسْطَحَهُ فِيهِ أَكَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إنْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعًا مُعَيَّنًا مَعْلُومًا لِذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَزُولُ بِتَعْيِينِ الْمَوْضِعِ وَهِيَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فَالِاسْتِئْجَارُ لِأَجْلِهِ يَصِحُّ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ مَجْهُولٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ الضَّرَرَ يَتَفَاوَتُ بِقِلَّةِ الْمَاءِ وَكَثْرَتِهِ وَإِعْلَامُ مِقْدَارِ الْمَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَرُبَّمَا لَا يَأْخُذُ الْمَاءُ جَمِيعَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ وَرُبَّمَا يَزْدَادُ عَلَيْهِ فَلِلْجَهَالَةِ قُلْنَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ كُلَّ شَهْرٍ بِطَعَامِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ طَعَامَهُ مَجْهُولٌ وَهُوَ عَلَى رَبِّ الْعَبْدِ.
فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَانَ فَاسِدًا وَالْمَجْهُولُ مَتَى ضُمَّ إلَى الْمَعْلُومِ يَصِيرُ الْكُلُّ مَجْهُولًا بِهِ، وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُ الدَّابَّةِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَعَلَفُهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ إجَارَةٍ فِيهَا رِزْقٌ، أَوْ عَلَفٌ فَهِيَ فَاسِدَةٌ إلَّا فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا، وَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ أَسْتَحْسِنُ جَوَازَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
وَاشْتِرَاطُ تَطْيِينِ الدَّارِ وَمَرَمَّتِهَا أَوْ غَلْقِ بَابٍ عَلَيْهَا، أَوْ إدْخَالِ جِذْعٍ فِي سَقْفِهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مُفْسِدٌ لِلْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ فَقَدْ شَرَطَ الْأَجْرِ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَاشْتِرَاطُ كَرْيِ نَهْرِهَا أَوْ ضَرْبِ مُسَنَّاةٍ عَلَيْهَا، أَوْ حَفْرِ بِئْرٍ فِيهَا، أَوْ أَنْ يُسَرِّقَهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَهَذَا كُلُّهُ مُفْسِدٌ لِلْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ تَبْقَى بَعْدَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَيُسَلَّمُ ذَلِكَ لِلْآجِرِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى شَرْطِ أُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ رَبُّ الْأَرْضِ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ مَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ إذَا انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ، وَأَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ مَكْرُوبَةً فَهَذَا كُلُّهُ مَجْهُولٌ ضَمَّهُ إلَى الْمَعْلُومِ وَشَرَطَهُ لِنَفْسِهِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهِ.
رَجُلٌ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى رَجُلٍ يَغْرِسُ فِيهَا شَجَرًا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ نِصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا نِصْفَ الْغِرَاسِ مِنْهُ بِنِصْفِ الْأَرْضِ وَالْغِرَاسُ مَجْهُولٌ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ هَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
فَأَمَّا الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ يَقُولُ تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي أَنَّهُ جَعَلَ نِصْفَ الْأَرْضِ عِوَضًا عَنْ جَمِيعِ الْغِرَاسِ وَنِصْفَ الْخَارِجِ عِوَضًا لِعَمَلِهِ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ اشْتَرَى الْعَامِلُ نِصْفَ الْأَرْضِ بِجَمِيعِ الْغِرَاسِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فَإِنْ فَعَلَ فَالشَّجَرُ لِرَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الشَّجَرِ كَانَ فَاسِدًا وَمُذَرَّعَتُهُ فِي أَرْضِهِ بِأَمْرِهِ فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ قَابِضًا لِلْغِرَاسِ بِاتِّصَالِهِ بِأَرْضِهِ مُسْتَهْلِكًا بِالْعُلُوقِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الشَّجَرِ وَأَجْرُ مَا عَمِلَ؛ لِأَنَّهُ ابْتَغَى مِنْ عَمَلِهِ عِوَضًا وَهُوَ نِصْفُ الْخَارِجِ وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ فَكَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ.
فَإِنْ (قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَ الْأَرْضِ شِرَاءً فَاسِدًا وَمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ الْأَرْضِ شِرَاءً فَاسِدًا غَرَسَ فِيهَا أَشْجَارًا فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ فِيهَا حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (قُلْنَا) هَذَا أَنَّهُ لَوْ غَرَسَ الْأَشْجَارَ لِنَفْسِهِ وَهُنَا الْعَامِلُ فِي الْغَرْسِ يَقُومُ مَقَامَ رَبِّ الْأَرْضِ وَيَعْمَلُ لَهُ بِالْأَجْرِ فَكَأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ عَمِلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْعَامِلُ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ هَذَا التَّأْوِيلَ لِإِمْكَانِ إيجَابِ أَجْرِ الْعَمَلِ فَإِنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُشْتَرِيًا نِصْفَ الْغَرْسِ كَانَ عَامِلًا فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ فَلِذَلِكَ أَلْزَمَهُ قِيمَةَ الْغَرْسِ حِينَ عُلِّقَتْ، وَلَوْ كَانَ مُشْتَرِيًا لِلنِّصْفِ لَكَانَ يَلْزَمُهُ نِصْفُ قِيمَةِ الْغَرْسِ حِينَ عُلِّقَتْ وَنِصْفُ قِيمَةِ الشَّجَرِ وَقْتَ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهَا أَشْجَارٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فِي أَرْضٍ أَحَدُهُمَا.
فَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ نَصِيبَ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ فِي الْحَالِ، ثُمَّ قَالَ وَلَا آمُرُهُ بِقَلْعِ الْأَشْجَارِ لِمَا يَدْخُلُ بِهِ مِنْ الْفَسَادِ عَلَيْهِمَا وَبِظَاهِرِ هَذَا يَتَمَسَّكُ مَنْ يَخْتَارُ الطَّرِيقَةَ الْأُولَى أَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا نِصْفَ الْغَرْسِ؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْأَشْجَارَ تَكُونُ مُشْتَرَكَةً، وَلَكِنَّهُ لَا يُقْلَعُ لِمَا يَدْخُلُ بِهِ مِنْ الْفَسَادِ عَلَيْهِمَا.
قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَأْوِيلُ هَذَا اللَّفْظِ فَسَادُ الْقَلْعِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَضَيَاعُ عَمَلِ الْأَجِيرِ بِالْقَلْعِ وَبُطْلَانُ حَقِّهِ فِي الْأَجْرِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَكَلَ الْغَلَّةَ عَلَى هَذَا حُسِبَ عَلَى الْغَارِسِ مَا أَكَلَ مِنْ أَجْرِهِ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَةَ مِلْكُ رَبِّ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الثَّمَرَ بِمِلْكِ الشَّجَرِ فَمَا أَكَلَهُ الْعَامِلُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِهِ.
(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ فِي تَقْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَجْعَلَ أَرْضَهُ بُسْتَانًا بِآلَاتِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَجْرُهُ بَعْضَ مَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْبُسْتَانِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ صَبَّاغًا لِيَصْبُغَ ثَوْبَهُ بِصِبْغِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْمَصْبُوغِ لِلصَّبَّاغِ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيرِ الطَّحَّانِ وَنَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغَرْسَ آلَةٌ تَصِيرُ الْأَرْضُ بِهَا بُسْتَانًا كَالصَّبْغِ لِلثَّوْبِ.
فَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ بَقِيَتْ الْآلَةُ مُتَّصِلَةً بِمِلْكِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا كَمَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ قِيمَةُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِي ثَوْبِهِ إلَّا أَنَّ الْغِرَاسَ أَعْيَانٌ تَقُومُ بِنَفْسِهَا فَلَا يَدْخُلُ أَجْرُ الْعَمَلِ فِي قِيمَتِهَا فَيَلْزَمُهُ مَعَ قِيمَةِ الْأَشْجَارِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَبْقَى مِنْ عَمَلِهِ عِوَضًا وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَلَوْ دَفَعَ الْغَزْلَ إلَى حَائِكٍ لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ حَمْلُ الطَّعَامِ فِي سَفِينَةٍ، أَوْ عَلَى دَابَّةٍ بِنِصْفِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ صَارَ شَرِيكًا بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ يَقَعُ عَلَى الْعَامِلِ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ.
فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا مِنْ الْمَعْمُولِ فَبَقِيَ عَمَلُهُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ ذَلِكَ لِتَمَامِ رِضَاهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ.
وَلَوْ كَانَ طَعَامًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ اسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ لِيَحْمِلَهُ أَوْ يَطْحَنَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَاسْتِئْجَارُهُ عَلَى ذَلِكَ كَاسْتِئْجَارِهِ أَجْنَبِيًّا آخَرَ وَشَرِكَتُهُ فِي الْمَحَلِّ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِئْجَارِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ بَيْتًا لِيَحْفَظَ فِيهِ الطَّعَامَ الْمُشْتَرَكَ، أَوْ دَابَّةً لِيَنْقُلَ عَلَيْهَا الطَّعَامَ الْمُشْتَرَكَ صَحَّ الِاسْتِئْجَارُ فَهَذَا مِثْلُهُ (وَحُجَّتُنَا) الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فِي النَّهْيِ عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّهُ لَوْ جَازَ صَارَ شَرِيكًا فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَقَدُّمَ الشَّرِكَةِ فِي الْمَحَلِّ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ، وَهَذَا؛ لِأَدَنّ الْعَقْدَ يُلَاقِي الْعَمَلَ وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ وَبَيْنَ كَوْنِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ عَامِلًا لِغَيْرِهِ مُنَافَاةٌ وَالْأَجِيرُ مَنْ يَكُونُ عَامِلًا لِغَيْرِهِ.
وَفِيمَا يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا بِخِلَافِ الْبَيْتِ وَالدَّابَّةِ فَالْعَقْدُ هُنَاكَ يَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهَا وَلَا شَرِكَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ حِفْظُ الطَّعَامِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْبَيْتِ وَلَوْ سَلَّمَ الْبَيْتَ إلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ فِيهِ شَيْئًا بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَالْعَقْدُ هُنَا يَرِدُ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْمُشْتَرَكِ حَتَّى لَا يَسْتَوْجِبَ الْأَجْرَ بِدُونِ الْعَمَلِ وَلَا يَعْمَلُهُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، ثُمَّ هُنَا، وَإِنْ أَقَامَ الْعَمَلَ فَلَا أَجْرَ لَهُ بِخِلَافِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إجَارَةِ الْمُشَاعِ فَإِنَّ هُنَاكَ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ هُنَاكَ لِلْعَجْزِ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لَا لِانْعِدَامِ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا.
فَإِذَا تَحَقَّقَ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَجَبَ الْأَجْرُ وَهُنَا بُطْلَانُ الْعَقْدِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَصْلًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِي الْمَحَلِّ الْمُشْتَرَكِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ فِي الْعَمَلِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِدُونِ الِاسْتِيفَاءِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَعَلَى هَذَا نَسْجُ الْغَزْلِ وَرَعْيُ الْغَنَمِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَهُمَا فَكُلُّ مَنْ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِالْعَمَلِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْخِلَافِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَحَا مَاءٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهَا فَالْأَجْرُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ مُوجِبَ الْعَقْدِ فَهُوَ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ أَنْ لَا يَجِبَ الْأَجْرُ إلَّا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَكُلُّ شَرْطٍ يُخَالِفُ مُوجِبَ الْعَقْدِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَتَنَاوَلُ وَقْتَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ حَتَّى لَا يَجِبَ الْأَجْرُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُفْسَخْ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ جَمِيعَ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الرَّحَا فِي وَقْتِ جَرَيَانِ الْمَاءِ وَلَا يَدْرِي فِي كَمْ يَكُونُ الْمَاءُ جَارِيًا وَجَهَالَةُ الْمَنْعِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ كُتُبًا لِيَقْرَأَ فِيهَا شَعْرًا أَوْ فِقْهًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْقَارِئِ وَالنَّظَرُ فِي الْكِتَابِ وَالتَّأَمُّلُ فِيهِ لِيَفْهَمَ الْمَكْتُوبَ فَإِنْ فَعَلَهُ أَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ أَجْرٌ بِمُقَابَلَةِ فِعْلِهِ، وَلِأَنَّ فَهْمَ مَا فِي الْكِتَابِ لَيْسَ فِي وُسْعِ صَاحِبِ الْكِتَابِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ، وَلَكِنْ لِمَعْنًى فِي الْبَاطِنِ مِنْ حِدَّةِ الْخَاطِرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ يُوجِبُ لَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ فَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْكِتَابِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ لِيُوجِبَ الْأَجْرَ بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ فَكَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا سَمَّى الْمُدَّةَ أَوْ لَمْ يُسَمِّ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ قَرَأَ، وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْمُصْحَفِ وَالْكَلَامُ فِيهِ أَبْيَنُ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنْ الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ فِيهِ طَاعَةٌ وَكَانَ هَذَا كُلُّهُ نَظِيرَهُ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ كَرْمًا لِيَفْتَحَ لَهُ بَابَهُ فَيَنْظُرَ فِيهِ لِلِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَهُ، أَوْ اسْتَأْجَرَ مَلِيحًا لِيَنْظُرَ إلَى وَجْهِهِ فَيَسْتَأْنِسَ بِذَلِكَ، أَوْ اسْتَأْجَرَ جُبًّا مَمْلُوءًا مِنْ الْمَاءِ لِيَنْظُرَ فِيهِ إذَا سَوَّى عِمَامَتَهُ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْعُقُودِ.
فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلًا لِيُعَلِّمَ وَلَدَهُ الْقُرْآنَ أَوْ الْفِقْهَ، أَوْ الْفَرَائِضَ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ فَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا بَاطِلٌ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ كُلُّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ إقَامَتُهُ فَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ صَحِيحٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِيهِ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْحَجِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُدَرِّسِ الْعِلْمِ «إيَّاكَ وَالْخُبْزَ الرُّقَاقَ وَالشَّرْطَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» وَلَمَّا أَقْرَأَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ أَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ قَوْسًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَتُحِبُّ أَنْ يُقَوِّسَكَ اللَّهُ بِقَوْسٍ مِنْ نَارٍ فَقَالَ لَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُدَّ عَلَيْهِ قَوْسَهُ».
وَلِأَنَّ مَنْ يُعَلِّمُ غَيْرَهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَعْمَلُ فَإِنَّهُ بُعِثَ مُعَلِّمًا وَهُوَ مَا كَانَ يَطْمَعُ فِي أَجْرٍ عَلَى التَّعْلِيمِ.
فَكَذَلِكَ مَنْ يَخْلُفُهُ وَعَمَلُهُ ذَلِكَ قُرْبَةٌ وَمَنْفَعَةُ عَمَلٍ يَحْصُلُ لَهُ فَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ وَبِدُونِ التَّسْلِيمِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ وَبَعْضُ أَئِمَّةِ بَلْخِي رَحِمَهُمُ اللَّهُ اخْتَارُوا قَوْلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالُوا إنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ بَنَوْا هَذَا الْجَوَابَ عَلَى مَا شَاهَدُوا فِي عَصْرِهِمْ مِنْ رَغْبَةِ النَّاسِ فِي التَّعْلِيمِ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ وَمُرُوءَةِ الْمُتَعَلِّمِينَ فِي مُجَازَاتِ الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ.
فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ انْعَدَمَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا فَنَقُولُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ هَذَا الْبَابُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْرُجْنَ إلَى الْجَمَاعَاتِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ مَنَعَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مَا رَوَاهُ مِنْ ذَلِكَ صَوَابًا وَلَوْ اسْتَأْجَرُوا مَنْ يَؤُمُّهُمْ فِي رَمَضَانَ، أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرُوا مَنْ يُؤَذِّنُ لَهُمْ فَالْمُؤَذِّنُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْفَعَةُ عَمَلِهِ تَحْصُلُ لَهُ؛ لِأَنَّ بِكَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ يَزْدَادُ ثَوَابُهُ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «كَانَ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَالَ صَلِّ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ، وَإِنْ اتَّخَذْتَ مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا» وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ إنِّي أُحِبُّك فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنِّي أُبْغِضُك فِي اللَّهِ قَالَ وَلِمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّك تَأْخُذُ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا.
وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ وَالْمَزَامِيرِ وَالطَّبْلِ وَشَيْءٍ مِنْ اللَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْمَعَاصِي بَاطِلٌ فَإِنَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْعًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ عَلَى الْمَرْءِ فِعْلٌ بِهِ يَكُونُ عَاصِيًا شَرْعًا، وَكَذَلِكَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْحِدَاءِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِئْجَارُ لِقِرَاءَةِ الشِّعْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ إجَارَةِ النَّاسِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجَارَةِ عُرْفُ النَّاسِ، وَلِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمُضِيٍّ فِي الْمُسْتَأْجَرِ وَهُوَ السَّمَاعُ وَالتَّأَمُّلُ وَالتَّفَهُّمُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْأَجْرِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ أَعْطَى الْمُسْتَأْجِرَ شَيْئًا مِنْ اللَّهْوِ يَلْهُو بِهِ فَضَاعَ، أَوْ انْكَسَرَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ وَاسْتَعْمَلَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَإِنَّ الْعَقْدَ، وَإِنْ بَطَلَ فَالْإِذْنُ فِي الِاسْتِعْمَالِ بَاقٍ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ بِيعَةً يُصَلِّي فِيهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ، وَكَذَلِكَ الْكَنِيسَةُ وَبَيْتُ النَّارِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي هَذِهِ الْبِقَاعِ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَاسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ مَكْتُوبَةً أَوْ نَافِلَةً لَا يَجُوزُ.
فَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ هَذَا الْعَقْدِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ، وَفِي اعْتِقَادِنَا هَذَا مِنْهُمْ مَعْصِيَةٌ وَشِرْكٌ فَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ، ثُمَّ اسْتِئْجَارُ الْمَسْجِدِ مِنْ الْمُسْلِمِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ كَاسْتِئْجَارِ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا إنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَهْلُ الذِّمَّةِ ذِمِّيًّا لِيُصَلِّي بِهِمْ، أَوْ لِيَضْرِبَ لَهُمْ النَّاقُوسَ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ بَيْتًا لِيَبِيعَ فِيهِ الْخَمْرَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ وَلَا أَجْرَ لَهُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُجَوِّزُ هَذَا الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْخَمْرِ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ فِيهِ شَيْئًا آخَرَ يَجُوزُ الْعَقْدُ لِهَذَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ تَصْرِيحُهُمَا بِالْمَقْصُودِ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ مَعْنًى آخَرَ فِيهِ، وَمَا صَرَّحَا بِهِ مَعْصِيَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا اسْتَأْجَرَ مُسْلِمًا يَحْمِلُ لَهُ خَمْرًا فَهُوَ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يُجَوِّزَانِ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ يُحْمَلُ لِلشُّرْبِ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا تَجُوزُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَنَ اللَّهُ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا» وَذَكَرَ فِي الْجُمْلَةِ حَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ حَمْلُ الْخَمْرِ فَلَوْ كَلَّفَهُ بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ، وَلِأَنَّ حَمْلَ الْخَمْرِ قَدْ يَكُونُ لِلْإِرَاقَةِ وَلِلصَّبِّ فِي الْخَلِّ لِيَتَخَلَّلَ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ مَيْتَةً، وَذَلِكَ صَحِيحٌ فَهَذَا مِثْلُهُ إلَّا أَنَّهُمَا يُفَرِّقَانِ فَيَقُولَانِ الْمَيْتَةُ تُحْمَلُ عَادَةً لِلطَّرْحِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى.
فَأَمَّا الْخَمْرُ يُحْمَلُ عَادَةً لِلشُّرْبِ وَالْمَعْصِيَةِ.
وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ اُبْتُلِينَا بِمَسْأَلَةٍ وَهُوَ أَنَّ مُسْلِمًا اُسْتُؤْجِرَ عَلَى أَنْ يَنْقُلَ جِيفَةَ مَيْتَةٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ.
فَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْمِلُ حِمْلَ الْجِيفَةِ إلَى الْمَقْبَرَةِ لِإِمَاطَةِ الْأَذَى.
فَأَمَّا حَمْلُهُمَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ (وَقُلْت) أَنَا إنْ كَانَ الْأَجِيرُ عَالِمًا بِمَا أُمِرَ بِحَمْلِهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ لِمَعْنَى الْغُرُورِ وَاسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ الدَّابَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِ، أَوْ السَّفِينَةَ لِيَنْقُلَ عَلَيْهَا خَمْرًا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَرْعَى لَهُ خَنَازِيرَ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ فِي حَقِّنَا، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبِيعَ لَهُ مَيْتَةً، أَوْ دَمًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ فَحُكْمُهُمْ فِيهَا كَحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤَاجِرَ الْمُسْلِمُ دَارًا مِنْ الذِّمِّيِّ لِيَسْكُنَهَا فَإِنْ شَرِبَ فِيهَا الْخَمْرَ، أَوْ عَبَدَ فِيهَا الصَّلِيبَ، أَوْ أَدْخَلَ فِيهَا الْخَنَازِيرَ لَمْ يَلْحَقْ الْمُسْلِمَ إثْمٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَاجِرْهَا لِذَلِكَ وَالْمَعْصِيَةُ فِي فِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَفِعْلُهُ دُونَ قَصْدِ رَبِّ الدَّارِ فَلَا إثْمَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ فِي ذَلِكَ كَمَنْ بَاعَ غُلَامًا مِمَّنْ يَقْصِدُ الْفَاحِشَةَ بِهِ، أَوْ بَاعَ جَارِيَةً مِمَّنْ لَا يَشْتَرِيهَا، أَوْ يَأْتِيهَا فِي غَيْرِ الْمَأْتَى لَمْ يَلْحَقْ الْبَائِعَ إثْمٌ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ لَوْ اتَّخَذَ فِيهَا بِيعَةً، أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَاعَ فِيهَا الْخَمْرَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي السَّوَادِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِيمَا سَبَقَ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ثَوْبَةَ بْنِ نَمِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا إخْصَاءَ وَلَا كَنِيسَةَ فِي الْإِسْلَامِ» وَلِحَدِيثِ مَكْحُولٍ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَالَحَهُمْ بِالشَّامِ عَلَى أَنْ يُحَصِّلَ عَنْ كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ وَعَلَى أَنْ لَا يُحْدِثُوا كَنِيسَةً فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ مِنْ الْمُسْلِمِ بَيْتًا لِيُصَلِّي فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ، أَوْ التَّرَاوِيحَ لَمْ يَجُزْ وَلَا أَجْرَ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ إقَامَةُ الطَّاعَةِ، ثُمَّ يَحِقُّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ دِينًا تَمْكِينُ الْمُسْلِمِ مِنْ مَوْضِعٍ يُصَلِّي فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا فَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْتُلَ لَهُ رَجُلًا أَوْ يَشُجَّهُ، أَوْ يَضْرِبَهُ ظَالِمًا لَمْ يَجُزْ وَلَا أَجْرَ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ إقَامَةُ الطَّاعَةِ، ثُمَّ يَحِقُّ عَلَى كُلٍّ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَوْ جَازَ الْعَقْدُ لَصَارَ إقَامَةُ الْعَمَلِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ وَفِعْلُ مَا هُوَ ظُلْمٌ لَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى أَحَدٍ شَرْعًا، وَلَوْ أَعْطَاهُ سِلَاحًا لِذَلِكَ فَضَاعَ أَوْ انْكَسَرَ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَضْرِبَ حَدًّا قَدْ لَزِمَهُ، أَوْ لِيَقْبِضَ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ لِيَقْطَعَ يَدَ رَجُلٍ أَوْ لِيُقَوِّمَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ شَهْرًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ وَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ فِي الْمُدَّةِ حَتَّى يَسْتَوْجِبَ الْأَجْرَ بِتَسَلُّمِ النَّفْسِ وَهُوَ مَعْلُومٌ، ثُمَّ يَحْكُمَ أَنَّهُ مَلَكَ مَنَافِعَهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ، أَوْ الْقِصَاصِ خَاصَّةً لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَإِنْ (قِيلَ) إقَامَةُ الْحَدِّ طَاعَةٌ فَكَيْفَ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى إقَامَتِهِ عِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ (قُلْنَا) مَعْنَى الطَّاعَةِ فِيهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ؛ وَلِهَذَا صَحَّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ كَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ وَلَوْ اسْتَصْحَبَهُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ رِزْقًا كُلَّ شَهْرٍ فَهُوَ جَائِزٌ أَمَّا إنْ بَيَّنَ مِقْدَارَ مَا يُعْطِيهِ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي هَذَا كَالْقَاضِي وَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ رِزْقًا بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَنُوبُ عَنْ الْقَاضِي فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ، وَكَذَلِكَ قَسَّامُ الْقَاضِي إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيُقَسِّمَ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ قَاسِمٌ يَقْسِمُ بِالْأَجْرِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ إقَامَةُ هَذَا الْعَمَلِ عَلَى أَحَدٍ دِينًا فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ قُضِيَ لِرَجُلٍ بِالْقِصَاصِ فِي قَتْلٍ فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَقْتُلُ لَهُ لَمْ أَجْعَلْ لَهُ أَجْرًا، وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ قَالَ إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَقْتُلُ مُرْتَدًّا، أَوْ حَرْبِيًّا أَسِيرًا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَقْطَعَ طَرِيقًا جَازَ وَأَمَّا أَنَا فَلَا أُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَأُجَوِّزُ الْعَقْدَ فِيهِمَا وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ بِمَحَلِّهِ وَإِقَامَتُهُ جَائِزٌ شَرْعًا فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ كَذَبْحِ الشَّاةِ وَقَطْعِ الطُّرُقِ وَكَسْرِ الْحَطَبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (حَرْفَانِ) أَشَارَ إلَى أَحَدِهِمَا فِي الْكِتَابِ فَقَالَ مَا قِيلَ إنَّ هَذَا لَيْسَ بِعَمَلٍ يَعْنِي أَنَّ الْقَتْلَ إزْهَاقُ الرُّوحِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِصُنْعِ الْعِبَادِ كَمَا أَنَّ إدْخَالَ الرُّوحِ لَيْسَ مِنْ صُنْعِ الْعِبَادِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ.
فَكَذَلِكَ الْإِزْهَاقُ بِخِلَافِ الذَّبْحِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْيِيلِ الدَّمِ النَّجِسِ لِيَتَمَيَّزَ بِهِ الطَّاهِرُ مِنْ النَّجِسِ، وَذَلِكَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ وَهُوَ مِنْ صُنْعِ الْعِبَادِ وَالْقَطْعُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إبَانَةُ الْجُزْءِ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِصُنْعِ الْعَبْدِ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إيقَاعُ الْفِعْلِ فِي الْمَحَلِّ مَعَ التَّجَافِي وَمِثْلُهُ مِنْهُ مَا يَحِلُّ شَرْعًا وَمِنْهُ مَا يَحْرُمُ كَالْمُثْلَةِ وَلَا يَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ مِنْهُ إيقَاعُ الْفِعْلِ وَالْمَقْصُودُ يَتِمُّ بِضَرْبَةٍ أَوْ بِضَرْبَتَيْنِ فَلِلْجَهَالَةِ وَالتَّرَدُّدِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْقَطْعِ وَالذَّبْحِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِإِمْرَارِ السِّلَاحِ عَلَى الْمَحَلِّ لَا بِصِفَةِ التَّجَافِي عَنْهُ وَكَسْرِ الْحَطَبِ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ عَلَى الْمَحَلِّ بِالتَّجَافِي، وَلَكِنَّ الْكُلَّ فِيهِ سَوَاءٌ فِي صِفَةِ الْحِلِّ شَرْعًا؛ فَلِهَذَا جَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَغْزُو عَنْهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَزْوَ طَاعَةٌ فَهُوَ سَنَامُ الدِّينِ وَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ افْتَرَضَ عَلَيْهِ الذَّبُّ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَقِتَالُ الْمُشْرِكِينَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى إقَامَةِ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي وَيَأْخُذُونَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا كَمَثَلِ أُمِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ الْأَجْرَ مِنْ فِرْعَوْنَ».
وَلَوْ شَارَطَ كَحَّالًا أَنْ يُكَحِّلَ عَيْنَهُ شَهْرًا بِدِرْهَمٍ جَازَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الدَّوَاءُ فِي كُلِّ دَاءٍ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ فَحْلًا لِيُنْزِيَهُ لَمْ يَجُزْ لِلْأَثَرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّيْسِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَاءُ وَلَا قِيمَةَ لَهُ وَصَاحِبُ الْفَحْلِ يَلْتَزِمُ إيفَاءَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ وَإِنْ سَلَّمَ غُلَامًا إلَى مُعَلِّمٍ لِيُعَلِّمَهُ عَمَلًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُحَذِّقَهُ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ التَّحْذِيقَ مَجْهُولٌ إذْ لَيْسَ لِذَلِكَ غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ فِي ذَلِكَ أَشْهُرًا مُسَمَّاةً؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ إيفَاءَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَالتَّحْذِيقُ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُعَلِّمِ بَلْ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ شَيْءٍ فِي خِلْقَةِ الْمُتَعَلِّمِ، ثُمَّ فِيمَا سُمِّيَ مِنْ الْمُدَّةِ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحَذِّقَهُ كَمَا شَرَطَ أَمْ لَا وَالْتِزَامُ تَسْلِيمِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ.
، وَلَوْ أَجَّرَ أَرْضِهِ بِدَرَاهِمَ وَشَرَطَ خَرَاجَهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ مُرَادُهُ فِي الْأَرَاضِي الصُّلْحِيَّةِ فَالْمَالُ فِي ذَلِكَ يُقْسَمُ عَلَى الْجَمَاجِمِ وَالْأَرَاضِي فَتَزْدَادُ حِصَّةُ الْأَرَاضِي إذَا قُلْتِ الْجَمَاجِمُ وَتَنْقُصُ بِكَثْرَةِ الْجَمَاجِمِ.
فَأَمَّا فِي جِرَاحِ الْوَظِيفَةِ لَا جَهَالَةَ فِي الْمِقْدَارِ وَقِيلَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا إنَّ وُلَاةَ الظَّلَمَةِ أَلْحَقُوا بِالْخَرَاجِ رَوَادِفَ يَزْدَادُ ذَلِكَ تَارَةً وَيَتَنَقَّصُ أُخْرَى فَيَكُونُ مَجْهُولًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْخَرَاجَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ وَرِيعُ الْأَرْضِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَاهُ بِغَيْرِ أَجْرٍ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ خَرَاجَهَا فَإِنَّ الْخَرَاجَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ.
فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُزَارِعِ يَكُونُ ذَلِكَ أُجْرَةً وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ تُفْسِدُ الْإِجَارَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي كُلِّ جَرِيبٍ دِرْهَمٌ وَقَفِيزٌ مِمَّا يُخْرِجُهُ، وَذَلِكَ مَجْهُولُ الْجِنْسِ فِي الصِّفَةِ، وَلَوْ أَجَّرَهَا وَشَرَطَ الْعُشْرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ عِنْدَهُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ.
فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَأَنْ أَجَّرَهُ وَهُوَ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَعِنْدَهُمَا الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يَصِيرُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَخَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ نَظِيرُ الْعُشْرِ فِيمَا ذَكَرْنَا.
وَإِذَا كَانَ الْأَجْرُ كَذَا دِرْهَمًا وَدِينَارًا، أَوْ فَلْسًا فَهُوَ جَائِزٌ وَلَهُ نَقْدُ الْبَلَدِ وَوَزْنُهُمْ فَإِنْ كَانَ وَزْنُهُمْ مُخْتَلِفًا فَهُوَ فَاسِدٌ حَتَّى يُبَيِّنَ الْوَزْنَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
وَإِنْ جَعَلَ الْأَجْرَ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً عَدَدًا بِغَيْرِ وَزْنٍ وَبِغَيْرِ عَيْنِهَا فَهُوَ فَاسِدٌ وَمُرَادُهُ فِي الدَّرَاهِمِ الْمَوْزُونَةِ فَإِنَّهَا تَتَفَاوَتُ فِي الْوَزْنِ.
فَأَمَّا مَا يُعَدُّ وَلَا يُوزَنُ كَالْعِطْرِ يَفِي.
فَإِذَا سُمِّيَ الْعَدَدُ فِيهِ جَازَ كَمَا فِي الْفُلُوسِ، وَإِنْ أَشَارَ إلَى دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي الْبُيُوعِ فَإِنْ قَالَ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَدًا مِمَّا يَدْخُلُ فِي الْمِائَةِ خَمْسَةٌ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ الْوَزْنُ بِمَا ذُكِرَ مَعْنَاهُ فِيمَا يَزِنُ خَمْسَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا فَكَأَنَّهُ قَالَ مِائَةٌ إلَّا خَمْسَةً وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَكْتُبُ لَهُ مُصْحَفًا، أَوْ فِقْهًا مَعْلُومًا كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَمَلٌ مَعْلُومٌ وَهُوَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، ثُمَّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ مُتَعَارَفٌ وَقِيلَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْكِتَابَةِ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الصِّيَاغَةِ؛ لِأَنَّ بِعَمَلِهِ يُحْدِثُ لَوْنَ الْحَبْرِ فِي الْبَيَاضِ أَوْ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى النَّقْشِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ إذَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ.
(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا يَحْصُلُ بِعَمَلِ الْأَجِيرِ وَهِيَ الْكِتَابَةُ بِخِلَافِ التَّعْلِيمِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمَعْنًى فِي الْمُتَعَلِّمِ وَإِيجَادُ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُعَلِّمِ بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَعْمَلُ عَمَلًا فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارٍ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْوَصِيُّ نَفْسَهُ، أَوْ عَبْدَهُ يَعْمَلُ لِلْيَتِيمِ لَمْ يَجُزْ أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَنْفَرِدُ بِالْعَقْدِ لِلْيَتِيمِ مَعَ نَفْسِهِ بِحَالٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ وَلَا مَنْفَعَةَ هُنَا؛ لِأَنَّ مِنْ جِهَةِ الْوَصِيِّ مِمَّا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لِنَفْسِهِ وَيَشْتَرِطُ عَلَى الْيَتِيمِ بِمُقَابَلَتِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ الْيَتِيمَ، أَوْ عَبْدَ الْيَتِيمِ بِمَالِ نَفْسِهِ لِيَعْمَلَ لَهُ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا قَالُوا وَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ الظَّاهِرَةِ لِلْيَتِيمِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مَالًا بِإِزَاءِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَالْأَبُ يَسْتَأْجِرُ نَفْسَهُ، أَوْ عَبْدَهُ لِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ لِوَلَدِهِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ تَمْنَعُهُ مِنْ تَرْكِ النَّظَرِ لَهُ فَيَجُوزُ عَقْدُهُ مَعَ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ مَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ لِوَلَدِهِ فِيهِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْوَصِيُّ مِنْ نَفْسِهِ عَبْدًا لِلْيَتِيمِ لِيَعْمَلَ لِيَتِيمٍ آخَرَ مِنْ حُجْرَةٍ وَهُوَ وَصِيُّهُمَا فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إنْ نَفَعَ أَحَدَهُمَا أَضَرَّ بِالْآخَرِ وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ إلَّا بِمَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ وَلَا يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى وَلِيِّهِ وَلَهُ الْأَجْرُ إنْ عَمِلَ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ وَوُجُوبُ الْأَجْرِ بِاعْتِبَارِهِ.
فَإِذَا بَطَلَ لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مِنْهُ تَمَحُّضُ مَنْفَعَةٍ بَعْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ فَإِنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا الْعَقْدَ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ الْأَجْرُ وَالصَّبِيُّ لَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَمَّا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً لَهُ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَا يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ فَإِنْ فَعَلَ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَمَلِ وَجَبَ لَهُ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا فَإِنْ مَاتَ مِنْ الْعَمَلِ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهُ، ثُمَّ الْأَجْرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْحُرِّ فَإِنَّهُ، وَإِنْ هَلَكَ فِي الْعَمَلِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُمْلَكُ بِالضَّمَانِ.
وَإِذَا أَخَذَ الْعَبْدُ الْأَجْرَ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ فَإِنْ أَخَذَهُ الْغَاصِبُ مِنْ يَدِهِ فَاسْتَهْلَكَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ بَدَلِ مَنْفَعَةٍ كَإِتْلَافِ مَنَافِعِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْغَصْبِ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ نَهْرًا يَابِسًا لِيُجْرِيَ فِيهِ الْمَاءَ بِأَرْضِهِ، أَوْ إلَى رَحَا مَاءٍ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّهْرِ لَا يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى وَإِجْرَاءُ الْمَاءِ فِيهِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَمِقْدَارُ مَا يَجْرِي مِنْ الْمَاءِ مَجْهُولٌ وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ بَالُوعَةً لِيَصُبَّ فِيهَا وُضُوءَهُ وَبَوْلَهُ، أَوْ مَسِيلَ مَاءٍ لِيَسِيلَ فِيهِ مَاءُ مِيزَابِهِ فَهَذَا مَجْهُولٌ وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ بِئْرًا لِيَسْقِيَ مِنْهَا غَنَمَهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ حَرِيمِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ مَوْضِعًا مَعْلُومًا لِيَكُونَ عَطَنًا لِمَوَاشِيهِ وَيُبِيحُ لَهُ سَقْيَ الْمَوَاشِي مِنْ الْبِئْرِ، وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْمَرْعَى لَا تَجُوزُ وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا لِيَضْرِبَ فِيهِ خَيْمَةً فَيَسْكُنَ وَيُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِالْمَرْعَى، وَلَوْ أَجَّرَهُ بَكَرَةً وَحَبْلًا وَدَلْوًا يَسْقِي بِهَا غَنَمَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ لِلْجَهَالَةِ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ وَقْتًا فَيَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدُ يَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ فِي الْمُدَّةِ.
فَإِنْ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ مَوْضِعَ جِذْعٍ يَضَعُهُ عَلَى حَائِطِهِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا وَجَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ اسْتَأْجَرَهُ لِمَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَوْ اسْتَعَارَهُ لِذَلِكَ جَازَ.
فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهُ، وَلَكِنَّا أَفْسَدْنَاهُ لِلْجَهَالَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَتَفَاوَتُ بِثِقَلِ الْجِذْعِ وَخِفَّتِهِ وَكَثْرَةِ مَا يَبْنِي وَقِلَّتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ حَائِطًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ سُتْرَةً فَهُوَ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْجَهَالَةِ، وَقَدْ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ طَرِيقًا فِي دَارٍ لِيَمُرَّ فِيهِ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ فَاسِدٌ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِجَهَالَةِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ فِيهِ وَلِلشُّيُوعِ فَإِنَّ عِنْدَهُ اسْتِئْجَارُ جُزْءٍ مِنْ الدَّارِ شَائِعًا لَا يَجُوزُ.
فَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ وَعِنْدَهُمَا اسْتِئْجَارُ جُزْءٍ شَائِعٍ صَحِيحٌ.
فَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عُلُوَّ مَنْزِلٍ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَازَ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ بِنَاءِ الْعُلُوِّ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ وَسَطْحُ السُّفْلِ حَقُّ صَاحِبِ السُّفْلِ كَالْأَرْضِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ بَيْتًا جَازَ.
فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ سَطْحَ السُّفْلِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ هَذَا اسْتِئْجَارُ الْهَوَاءِ وَالْهَوَاءُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ ثُمَّ مِقْدَارُ مَا يَبْنِي مَجْهُولٌ وَالضَّرَرُ عَلَى حِيطَانِ السُّفْلِ يَتَفَاوَتُ بِقِلَّةِ ذَلِكَ وَكَثْرَتِهِ وَرُبَّمَا تُفْضِي هَذِهِ الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَالضَّرَرُ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَخْتَلِفُ بِخِفَّةِ الْبِنَاءِ وَثِقَلِهِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعَ كُوَّةٍ يَنْقُبُهَا فِي حَائِطٍ لَهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْهَا الضَّوْءُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ إجَارَةِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِمَا لَيْسَ مِنْ مِلْكِ الْمُؤَاجِرِ وَهُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ.
فَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعًا لِيَمْتَدَّ فِي حَائِطٍ يُعَلِّقُ عَلَيْهِ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ أَرْضٌ وَبِهَذَا اللَّفْظِ يَسْتَدِلُّ مَنْ لَا يُجَوِّزُ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتِئْجَارَ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ فَفِي تَأَمُّلِهِ تَنْصِيصٌ عَلَى هَذَا، ثُمَّ الضَّرَرُ عَلَى الْحَائِطِ يَخْتَلِفُ بِخِفَّةِ مَا يُعَلِّقُهُ عَلَى الْوَتَدِ أَوْ بِثِقَلِهِ فَهُوَ مَجْهُولٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ إعْلَامُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعَ مِيزَابٍ فِي حَائِطٍ لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الْحَائِطِ يَتَفَاوَتُ بِقِلَّةِ الْمَاءِ الَّذِي يَسِيلُ وَكَثْرَتِهِ فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَ مِيزَابًا مُدَّةً مَعْلُومَةً لِيَنْصِبَهُ فِي حَائِطٍ يَسِيلُ فِيهِ مَاؤُهُ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ اسْتَأْجَرَهُ لِمَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَعْمَلَ لَهُ عَمَلَ الْيَوْمِ إلَى اللَّيْلِ بِدِرْهَمٍ خِيَاطَةً أَوْ صِبَاغَةً، أَوْ خُبْزًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، وَيَكُونُ الْعَقْدُ عَلَى الْعَمَلِ دُونَ الْيَوْمِ حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْهُ نِصْفَ النَّهَارِ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا، وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ فِي الْيَوْمِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ فِي الْغَدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْعَمَلُ وَهُوَ مَعْلُومٌ مُسَمًّى وَذِكْرُ الْوَقْتِ لِلِاسْتِعْجَالِ لَا لِتَعْلِيقِ الْعَقْدِ بِهِ فَكَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ فِي أَسْرَعِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مَقْصُودٌ لَهُ، وَذَلِكَ الْعَمَلُ دُونَ الْمُدَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ جَمَعَ فِي الْعُقْدَتَيْنِ تَسْمِيَةَ الْعَمَلِ وَالْمُدَّةَ وَحُكْمُهُمَا مُخَالِفٌ فَمُوجِبُ تَسْمِيَةِ الْمُدَّةِ اسْتِحْقَاقُ مَنَافِعِهِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ بِالْعَقْدِ وَمُوجِبُ تَسْمِيَةِ الْعَمَلِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْوَصْفَ الَّذِي يُحْدِثُهُ فِي الْمَعْمُولِ لَا مَنَافِعِهِ وَيَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارًا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالِاعْتِبَارِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ بِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تُفْضِي هَذِهِ الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ قَبْلَ مُضِيِّ الْيَوْمِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَقُولَ مَنَافِعُك فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ حَقِّي بِاعْتِبَارِ تَسْمِيَةِ الْوَقْتِ، وَأَنَا أَسْتَعْمِلُك.
وَإِذَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْيَوْمِ فَلِلْأَجِيرِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ قَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مَقْصُودَ الْمُسْتَأْجِرِ فَالْمُدَّةُ مَقْصُودُ الْأَجِيرِ فَلَيْسَ الْبِنَاءُ عَلَى مَقْصُودِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى مَقْصُودِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْأَجِيرَ يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إقَامَةُ جَمِيعِ الْعَمَلِ الْمُسَمَّى فِي الْوَقْتِ الْمُسَمَّى.
وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَخِيطَ لَهُ هَذَا الْقَمِيصَ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ قَالَ فِي الْيَوْمِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ بِحَرْفِ فِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ ذِكْرِ الْمُدَّةِ الِاسْتِعْجَالُ لَا تَسْمِيَةُ الْمِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَحَرْفُ فِي لِلظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ، وَقَدْ يَشْغَلُ جُزْءًا مِنْ الظَّرْفِ لَا جَمِيعِهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مِنْ الْكُوفَةِ إلَى بَغْدَادَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَذَكَرَ الْمُدَّةَ وَالْمَسَافَةَ وَالْعَمَلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَنْقُلُ لَهُ طَعَامًا مَعْلُومًا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ الْيَوْمِ إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا شَهْرًا بِأَجْرٍ مُسَمًّى عَلَى أَنَّهُ إنْ مَرِضَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِقَدْرِ الْأَيَّامِ الَّتِي مَرِضَ فِيهَا مِنْ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَلَا يَدْرِي فِي أَيِّ مِقْدَارٍ مِنْ الشَّهْرِ يَمْرَضُ لِيَدْخُلَ فِي الْعَقْدِ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ، ثُمَّ هَذَا الشَّهْرُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ انْتِهَاؤُهُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ، وَهَذَا الشَّرْطُ يُخَالِفُ ذَلِكَ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا شَهْرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ إنْ سَكَنَهُ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَنَّهُ مَتَى خَرَجَ بِعُذْرٍ لَا يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ، ثُمَّ مِقْدَارُ أَجْرِ مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مَجْهُولٌ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى بَغْدَادَ عَلَى أَنَّهُ إنْ بَلَغَ قَرْيَةَ كَذَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الْأَجْرِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي سَمَّى، وَلِأَنَّ الشَّرْطَ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِمْلَ كَذَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ إلَى مَوْضِعِ كَذَا عَلَى أَنَّهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كَذَا مِنْ الْحِمْلِ فَحَمَلَ غَيْرَ ذَلِكَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَلَمْ يَحْمِلْ الْأَوَّلَ فَأَجَّرَهَا كَذَا فَهُوَ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ عَلَى مَا شَرَطَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ زَرَعَهَا سِمْسِمًا فَأَجْرُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا عَلَى أَنَّهُ إنْ أَسْكَنَهُ بَزَّازًا فَأَجْرُهُ خَمْسَةٌ، وَإِنْ أَسْكَنَهُ قَصَّارًا فَأَجْرُهُ عَشَرَةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ مَجْهُولٌ فَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِسَكَنِ الْقَصَّارِ وَالْبَزَّازِ وَهُمَا عَقْدَانِ فِي عَقْدٍ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَيْنِ فِي بَيْعٍ» أَرَأَيْت لَوْ سَلَّمَ إلَيْهِ الْبَيْتَ فَلَمْ يَسْكُنْهُ أَصْلًا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَمَاذَا يُوجِبُ عَلَيْهِ خَمْسَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومٌ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ مَعْلُومٌ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا جَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا فِي الْبَدَلِ.
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْكُنْهَا فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنْ يَلْزَمَهُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ التَّسْمِيَتَيْنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ هُنَا، وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَتَيْنِ جَمِيعًا، وَلَيْسَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْبَدَلِ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ خَمْسَةٌ، ثُمَّ الْتَزَمَ زِيَادَةَ الْبَدَلِ بِزِيَادَةِ الضَّرَرِ.
وَإِذَا سَكَنَهُ قَصَّارًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوهِنُ الْبِنَاءَ.
فَإِذَا لَمْ يُسْكِنْهَا أَحَدًا فَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الضَّرَرُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَسْكَنَ بَزَّازًا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا خَمْسَةٌ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يُسْكِنَهُ قَصَّارًا.
فَإِذَا لَمْ يُسْكِنْهُ أَصْلًا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إلَّا خَمْسَةٌ.
رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا وَلَا يَنْزِلَ فِيهَا فَالْإِيجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَفَى مُوجِبَ الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ، وَذَلِكَ يُضَادُّ الْعَقْدَ، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ الْفَاسِدَةَ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ لَا يُوجِبُ الْأَجْرَ مَا لَمْ يُوجِبْ الِاسْتِيفَاءَ حَقِيقَةً كَمَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّفُونَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُعْتَمَدٍ، وَإِنْ سَكَنَهَا فَعَلَيْهِ بِأَجْرِ مِثْلِهَا لَا يَنْقُصُ مِمَّا سَمَّى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالْمُسَمَّى بِشَرْطِ أَنْ لَا يَسْكُنَ فَعِنْدَ السُّكْنَى لَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَتْ.
وَإِنْ جَعَلْت أَجْرَ الدَّارِ أَنْ يُؤَذِّنَ لَهُمْ سَنَةً، أَوْ يَوْمًا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ إنْ سَكَنَهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَإِنَّمَا سَمَّى إذَا كَانَ لَا يَصْلُحُ بَدَلًا فَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَمَا لَوْ أَجَّرَهَا وَلَمْ يُسَمِّ الْأَجْرَ وَلَا أَجْرَ لَهُ فِي الْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْعَقِدُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ لَا صَحِيحًا وَلَا فَاسِدًا، وَلِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مُسَلِّمًا عَمَلَهُ إلَى غَيْرِهِ.
وَإِنْ تَكَارَى بِرْذَوْنًا لِيَتَعَرَّضَ عَلَيْهِ فَإِنْ جَازَ فَعَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فَعَلَيْهِ خَمْسَةٌ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ أَصْحَابِ الدِّيوَانِ اسْمُهُ فِي دِيوَانِ الْفُرْسَانِ، وَقَدْ يُفِقْ فَرَسَهُ فَطَلَبَ السُّلْطَانُ الْعَرْضَ فَاسْتَأْجَرَ الْفَرَسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَقَّفْ عَلَى ضَيْعَةٍ فَالْأَجْرُ عَشَرَةٌ، وَإِنْ وَقَّفَ عَلَى ذَلِكَ فَالْأَجْرُ خَمْسَةٌ فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ فَلَا يَدْرِي الْجَوَازَ وَلَا يَجُوزُ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِيمَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُفِقْ فِي رُكُوبِهِ أَوْ أَخَذَهُ السُّلْطَانُ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَالْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ إجَارَةٍ صَحِيحَةٍ.
وَإِنْ تَكَارَى بَغْلًا عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا رَكِبَ الْأَمِيرُ رَكِبَ مَعَهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ مِنْ كُلِّ رَكْبَةٍ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ بِقَدْرِ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً إلَى بَغْدَادَ عَلَى أَنَّهُ إنْ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَغْدَادَ شَيْئًا، أَوْ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَعْطَاهُ نِصْفَ ذَلِكَ فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ وَالْغَرَرِ الْمُتَمَكِّنِ بِسَبَبِ الشَّرْطِ فِي أَصْلِ الْأَجْرِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِيمَا يَرْكَبُ، وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى بَغْدَادَ عَلَى أَنَّهَا إنْ بَلَّغَتْهُ إلَى بَغْدَادَ فَلَهُ أَجْرُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا بِقَدْرِ مَا سَارَ عَلَيْهَا لِمَعْنَى الْمُخَاطَرَةِ وَالضَّمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْخِيَاطَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.