فصل: بَابُ هِبَةِ الْمَرِيضِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ هِبَةِ الْمَرِيضِ:

(قَالَ: وَلَا يَجُوزُ هِبَةُ الْمَرِيضِ، وَلَا صَدَقَتُهُ إلَّا مَقْبُوضَةً فَإِذَا قُبِضَتْ: جَازَتْ)، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: تَجُوزُ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ فَالْوَصِيَّةُ تَتَأَكَّدُ بِالْمَوْتِ- قُبِضَتْ أَوْ لَمْ تُقْبَضْ- وَلَا تَبْطُلُ بِهِ، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَجَعَلَ مَا يُبَاشِرُهُ الْمَرِيضُ فِي الْحُكْمِ كَالثَّابِتِ بَعْدَ مَوْتِهِ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا، وَرِثَتْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ وَلِأَجْلِهِ لَا تَتِمُّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ مِنْ الصَّحِيحِ إلَّا بِالْقَبْضِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعَقْدِ تَبَرُّعٍ؛ فَيَكُونُ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ لَا يُفِيدُ حُكْمُهُ، حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يُؤَيِّدُهُ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ أَضْعَفُ مِنْ تَصَرُّفِ الصَّحِيحِ.
وَاعْتِبَارُهُ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ- كَكَفَالَتِهِ، فَإِعْتَاقَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا خِلَافَةٌ- ثُمَّ الْمِلْكُ مِنْ ثَمَرَاتِهَا، وَالْخِلَافَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا عَقْدُ تَمْلِيكٍ، لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ، فَإِذَا لَمْ يُتَّفَقْ قَبْلَ الْمَوْتِ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ، إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْإِجَازَةُ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا.
وَلَا يَقُولُ: الطَّلَاقُ يَصِيرُ كَالْمُضَافِ، وَلَكِنْ تُقَامُ الْعِدَّةُ عِنْدَ الْمَوْتِ مَقَامَ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ أَنَّهَا لِحَقِّهَا فِي مَالِهِ بَعْدَ تَعَلُّقِهِ، وَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا هِبَتَهُ مِنْ الثُّلُثِ هُنَا، وَأَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ تَعَلَّقَ بِثُلُثَيْ مَالِهِ بِمَرَضِهِ، فَلِإِبْقَاءِ حَقِّهِمْ جَعَلْنَا هِبَتَهُ مِنْ الثُّلُثِ.
قَالَ فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ دَارًا فَقَبَضَهَا، ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا: جَازَتْ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِهَا وَرَدَّ الثُّلُثَيْنِ إلَى الْوَرَثَةِ.
(وَكَذَلِكَ) سَائِرُ مَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ، إلَّا فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ فَلَا إشْكَال، وَأَمَّا فِيمَا يُقْسَمُ؛ فَلِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ مَلَكَ الْكُلّ بِالْقَبْضِ، ثُمَّ بَطَلَ مِلْكُهُ فِي الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِ إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَكَانَ هَذَا شُيُوعًا طَارِيًا فِيمَا بَقِيَ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ؛ فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُسْتَحَقّ بِالْقَبْضِ، وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ مِنْ الْأَصْلِ، فَلَوْ جَازَ فِي الْبَاقِي: كَانَ شَائِعًا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ وَذَلِكَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ بِالْهِبَةِ.
قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ جَارِيَةً، فَكَاتِبُهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا، فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثًا قِيمَتِهَا لِلْوَرَثَةِ، وَلَا تُرَدُّ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مِنْهُ صَحِيحَةٌ لَازِمَةٌ، لِكَوْنِهِ مَالِكًا لَهَا حِينَ كَانَتْ، فَمَا دَامَتْ بَاقِيَةً لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ؛ وَلِأَنَّ فِي رَدِّ ثُلُثِهَا عَلَى الْوَرَثَةِ إبْطَالُ الْحَقِّ الثَّابِتِ لَهَا فِي نَفْسِهَا وَكَسْبِهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهَا بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ كَانَ ضَامِنًا لِلْوَرَثَةِ قِيمَةَ حِصَّتِهِمْ مِنْهَا، كَمَا لَوْ كَانَ أَعْتَقَهَا أَوْ دَبَرَهَا، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهَا، ثُمَّ عَجَزَتْ الْمُكَاتَبَةُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ عَلَيْهَا سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي قَضَى بِالْقِيمَةِ، وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَضَاءِ بِهِ- وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ- يَتَحَقَّقُ فَانْتَقَلَ حَقُّهُمْ إلَى الْقِيمَةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ فِي الْعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَوَالِ الْعَجْزِ- كَالْمَغْصُوبِ إذَا عَادَ مِنْ إبَاقِهِ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ- وَإِذَا عَجَزَتْ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ زَوَالٌ قَبْلَ انْتِقَالِ حَقِّهِمْ مِنْ عَيْنِهَا إلَى مَحِلٍّ آخَرَ، فَهُوَ كَالْمَغْصُوبِ إذَا عَادَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ.
(وَكَذَلِكَ) إنْ كَاتَبَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ (فَالْجَوَابُ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِثُلُثَيْهَا لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ بَانَ بِبَقَاءِ قَبْضِهِ، وَإِذَا فَسَدَ السَّبَبُ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالرَّدِّ، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ عَادَ الْمِلْكُ لَهُ فِي ثُلُثَيْهَا إلَى الْوَرَثَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ أَعْتَقَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عِتْقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَة الْمُشْتَرَكَة، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ.
قَالَ: مَرِيضٌ وَهَبَ لِمَرِيضٍ عَبْدًا وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَأَعْتَقَهُ، وَلَيْسَ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا مَال غَيْره، ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ، قَالَ: يَسْعَى الْعَبْدُ فِي ثُلُثِي قِيمَتِهِ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، فَيَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّيْنِ، وَثُلُثًا قِيمَتِهِ دَيْنٌ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ فَإِنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ حَقَّهُمْ فِي ثُلُثَيْ الْعَبْدِ بِالْإِعْتَاقِ، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَالُ الْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُث رَقَبَتِهِ فَسَلَّمَ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ ثُلُث هَذَا الثُّلُثِ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ هَذَا الثُّلُثِ لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوب لَهُ، وَكَانَ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي ثَمَانِيَةِ أَتْسَاعٍ قِيمَتُهُ، وَإِنَّمَا يُسَلِّمُ لَهُ التُّسْع، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ دَيْن أَلْف دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ يَضْرِبُ فِيهَا غَيْرَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بِدَيْنِهِمْ، وَوَرَثَةُ الْوَاهِبِ بِثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ مُحِيطٌ بِتَرِكَتِهِ، فَعَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ؛ لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ هَذِهِ الْقِيمَةُ تَرِكَةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَيَضْرِبُ فِيهَا غُرَمَاؤُهُ بِدُيُونِهِمْ، وَدَيْنُ وَرَثَةِ الْوَاهِبِ عَلَيْهِ ثُلُثًا قِيمَتِهِ، وَدَيْنُ الْغَرِيمِ الْآخَرِ أَلْفٌ، فَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا بِالْحِصَّةِ.
قَالَ: مَرِيضٌ وَهَبَ لِمَرِيضٍ عَبْدًا وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ قَتَلَ الْوَاهِبَ فِي مَرَضِهِ: فَالْهِبَةُ مَرْدُودَةٌ إلَى وَارِثِهِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الْمَرَضِ فِي حُكْمِ التَّنْفِيذِ مُعْتَبَرٌ بِالْوَصِيَّةِ؛ وَلِهَذَا يَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الدَّيْنِ، وَلَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ لِدَفْعِ الْمُعَاضَلَةِ عَنْ الْوَرَثَةِ حَتَّى لَا يُزَاحِمَهُمْ قَاتِلُ أَبِيهِمْ فِي مَالِ أَبِيهِمْ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا وَهَبَهُ فِي مَرَضِهِ.
قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْوَاهِبَ يُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ: ادْفَعْهُ، أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ مَلَكَ الْعَبْدَ بِالْقَبْضِ؛ فَإِنَّمَا جَنَى عَلَى الْوَاهِبِ مِلْكُهُ، وَفِي جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ خَطَأٌ عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ يُخَاطَبُ الْمَالِكُ بِالدَّفْعِ، أَوْ الْفِدَاءِ- كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى إنْسَانٍ آخَرَ- وَدَلِيلُ تَمَامِ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فِدَاؤُهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَهُوَ دِيَةُ النَّفْسِ، ثُمَّ بَدَّلَ نَفْس الْوَاهِبِ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ خَلْفَهُ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دُيُونَهُ، وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَالَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ إحْدَى عَشَرَ أَلْفًا، وَأَنَّ الْعَبْدَ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِهِ وَزِيَادَةٌ، فَكَانَتْ الْهِبَةُ صَحِيحَةً فِي جَمِيعِهِ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَتَخَلَّصُ عَنْ عُهْدَةِ الْجِنَايَةِ بِدَفْعِ الْجَانِي، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ الدَّفْعِ هُنَا، وَإِنَّمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدُّورِ فَقَالَ يَدْفَعُ نِصْفَهُ إلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ رَدِّ الْهِبَةِ وَنِصْفَهُ عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ لِلْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَوَازُ الْهِبَةِ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لِلْوَاهِبِ سِوَاهُ، وَلَكِنْ لِضَرُورَةِ الدُّورِ جَوَّزَ الْهِبَةَ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَبَيَانُ ذَلِكَ: إنَّمَا يُجْعَلُ الْعَبْدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ، وَتَبْطُلُ فِي سَهْمَيْنِ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ هَذَا السَّهْمَ بِالْجِنَايَةِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ، وَيَجِبُ بِحِسَابِهِ الزِّيَادَة فِي تَنْفِيذِ الْهِبَةِ، وَإِذَا زِدْنَا فِي تَنْفِيذِ الْهِبَةِ يَزْدَادُ مَالُهُ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ أَيْضًا، فَلَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا، وَسَهْمُ الدُّورِ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ شَاعَ بِالْفَسَادِ، فَالسَّبِيلُ يُقَيَّدُ، وَإِنَّمَا يُطْرَحُ هَذَا السَّهْمُ مِنْ قِبَلِ مَنْ خَرَّجَ الدُّورَ مِنْ جِهَتِهِمْ، وَإِنَّمَا الدُّورُ هُنَاكَ بِزِيَادَةٍ ظَهَرَتْ فِي نَصِيبِ الْوَرَثَةِ، فَالسَّبِيلُ أَنْ تُطْرَحَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ بَيْنَهُمَا، وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي سَهْمٍ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ فِي الْأَصْلِ عَلَى سَهْمَيْنِ تَنْفُذُ الْهِبَةُ فِي أَحَدِهِمَا، وَهُوَ النِّصْفُ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ذَلِكَ السَّهْمَ بِالْجِنَايَةِ فَسَلَّمَ لِلْوَرَثَةِ سَهْمَانِ، وَقَدْ نَفَذَ بِالْوَصِيَّةِ فِي سَهْمٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ وَالْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فِي الصُّورَةِ، فَفِي الْحُكْمِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ وَنِصْفٍ، فَكَانَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ، وَلَمَّا بَطَلَتْ الْهِبَةُ فِي النِّصْفِ بِالرَّدِّ سَقَطَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَالِكِهِ خَطَأٌ وَاعْتُبِرَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، وَقَدْ دَفَعَهُ الْمَالِكُ بِالْجِنَايَةِ؛ فَلِهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَاهُ.
قَالَ: وَإِذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ مَرِيضٌ، وَقَدْ كَانَتْ الْهِبَةُ فِي الصِّحَّةِ فَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَالرُّجُوعُ فِيهِ صَحِيحٌ، وَلَا سَبِيلَ لِغُرَمَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَوَرَثَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ يَسْتَحِقُّهُ بِحَقٍّ سَابِقٍ لَهُ عَلَى حَقِّهِمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ، كَانَ رَدُّ الْمَرِيضِ لَهَا حِينَ طَلَبَ الْوَاهِبُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ الْمَرِيضِ؛ فَيَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ: أَبْطَلَ ذَلِكَ الرُّجُوعَ، وَرُدَّتْ الْهِبَةُ إلَى تَرِكَةِ الْمَيِّتِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ، وَالْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ.
وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ بِالرَّدِّ بِاخْتِيَارِهِ، وَرِضَاهُ قَصَدَ إبْطَال حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ عَنْهُ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ، يُوَضِّحُهُ: أَنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ ضَعِيفٌ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ إسْقَاطِهِ بِتَصَرُّفِهِ فَإِذَا اتَّصَلَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ يَقْوَى فَيَقْدَمُ عَلَى حَقِّ غُرَمَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَوَرَثَته؛ لِقُوَّتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَضَاءُ يُقَدِّم حَقّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ عَلَى حَقّه؛ لِقُوَّةِ حَقِّهِمْ، وَضَعْفِ حَقِّ الْوَاهِبِ.
قَالَ: مَرِيضٌ لَهُ عَبْدٌ يُسَاوِي خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَهَبَهُ لِرَجُلٍ، وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْمَرِيضَ خَطَأً؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ: ادْفَعْهُ، أَوْ افْدِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَالِكٌ لِلْعَبْدِ حِينَ جَنَى فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَقَدْ بَيَّنَّا التَّخْرِيجَ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَاهُ بِالدِّيَةِ، وَسَلَّمَ لَهُ الْعَبْدَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلَ نَفْسِ الْوَاهِبِ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ خَلَّفَهُ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ مَالَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيمَة الْعَبْدِ خَمْسَةُ آلَافٍ، فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِهِ؛ فَلِهَذَا تَنْفُذُ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِهِ، وَإِذَا ظَهَرَ نُفُوذُ الْهِبَةِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ ظَهَرَ أَنَّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ دِيَة كَامِلَة لِلْوَرَثَةِ بِاخْتِيَارِهِ فَإِنْ كَانَ يُسَاوِي سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ؛ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ رُبْعَهُ، وَيُفْدِي مَا بَقِيَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الدُّورِ طَرِيقًا فِي تَخَرُّجِ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْمَسَائِلِ- هُوَ أَسْهَلَ الطُّرُقِ- قَالَ: وَلَوْ كَانَ لِلْوَاهِبِ سِوَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ كَانَتْ الْهِبَةُ صَحِيحَةً فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ يُؤَدِّي الدِّيَةَ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَيُسَلِّمُ ذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ مَعَ الْأَلْفَيْنِ، فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَدْ نَفَذَ بِالْهِبَةِ فِي الْعَبْدِ، وَهُوَ يُسَاوِي سِتَّةَ آلَافِ، فَيُسَلِّمُ لِلْوَرَثَةِ ضِعْف مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ، فَإِذَا عَدِمْنَا الْأَلْفَيْنِ تَعَذَّرَ عَلَيْنَا تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ، فَالسَّبِيلُ أَنْ يَضُمّ مَا عَدِمْنَا- وَهُوَ الْأَلْفَانِ- إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ- وَهُوَ سِتَّةُ آلَافٍ- ثُمَّ يَبْطُلُ مِنْ الْهِبَةِ بِقَدْرِ مَا عَدِمْنَا، وَتَجُوزُ بِقَدْرِ الْمَوْجُودِ، وَاَلَّذِي عَدِمْنَا مِنْ الْجُمْلَةِ مِقْدَارُ الرُّبْعِ، فَتَبْطُلُ الْهِبَةُ فِي رُبْعِ الْعَبْد، وَيَجُوزُ هُنَا، وَقِيمَةُ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ، ثُمَّ يُفْدَى ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ؛ وَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافٍ، وَخَمْسُمِائَةٍ فَيُسَلِّمُ ذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ مَعَ رُبْعِ الْعَبْدِ- وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ- وَجُمْلَةُ ذَلِكَ تِسْعَةُ آلَافٍ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي نِصْفِ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَخَمْسَمِائَةٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ، فَهَذَا طَرِيقٌ ظَاهِرٌ مِنْ غَيْرِ دُورٍ.
فَأَمَّا بَيَانُ طَرِيقِ الدُّورِ: أَنَّ الْعَبْدَ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ صَحَّتْ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ مِنْهُ، ثُمَّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَفْدِي السَّهْمَ بِمِثْلِهِ وَمِثْل ثُلُثَيْهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ سَهْمٍ مِنْ الْعَبْدِ يُقَابِلُهُ مِنْ الدِّيَةِ مِثْلَهُ، وَمِثْلَ ثُلُثَيْهِ، فَإِذَا فَدَاهُ بِسَهْمٍ وَثُلُثَيْنِ ازْدَادَ مَالُ الْوَرَثَةِ، وَجَاءَ الدُّورُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا، فَالسَّبِيلُ أَنْ يَطْرَحَ مِنْ أَصْلِ حَقِّ الْوَرَثَةِ مِقْدَارَ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ سَهْمٌ، وَثُلُثَا سَهْمٍ، وَقَدْ كَانَ حَقُّهُمْ فِي سَهْمَيْنِ فَإِذَا طَرَحْنَا سَهْمًا، وَثُلُثَيْ سَهْمٍ بَقِيَ حَقُّهُمْ فِي ثُلُثِ سَهْمٍ وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي سَهْمٍ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ عَلَى سَهْمٍ، وَثُلُثٍ انْكَسَرَ بِالْإِثْلَاثِ فَأَصْرِفهُ فِي ثُلُثِهِ، وَسَهْم وَثُلُث فِي ثُلُثِهِ يَكُونُ أَرْبَعَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَأَنَّ الْهِبَةَ تَنْفُذُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ فَيُقَدَّرُ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ إلَى آخِرِهِ كَمَا بَيَّنَّا، وَتَخْرُجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحِسَابِ مِنْ الْجَبْرِ، وَالْمُقَابِلَةِ، وَغَيْرِهَا.
وَلَكِنْ يُؤَخَّرُ بَيَانُ ذَلِكَ إلَى كِتَابِ الدُّورِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَأَخَوَاتُهَا تَعُودُ هُنَاكَ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-.
قَالَ: وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِالْخَمْرِ عَنْ الْهِبَةِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الْمُعَوِّضُ لِلْخَمْرِ أَوْ الذِّمِّيّ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِهِ، وَتَمَلُّكِهَا، فَهِيَ فِي حَقِّهِ- كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ- لَا تَصْلُحُ عِوَضًا.
قَالَ: وَإِنْ صَارَتْ الْخَمْرُ خَلًّا فِي يَدِ الْقَابِضِ لَمْ تَصِرْ مُعَوَّضًا، وَيَرُدُّهُ إلَى صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَهَا عَلَى وَجْهِ التَّعْوِيضِ بَاطِلٌ، فَتَثْبُتُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا فَإِذَا تَخَلَّلَتْ كَانَ الْخَلُّ مَمْلُوكًا لَهُ مَرْدُودًا عَلَيْهِ، وَأَصْلُ التَّعْوِيضِ لَمَّا بَطَلَ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِالتَّخَلُّلِ، كَمَا لَوْ بَاعَ خَمْرًا مِنْ إنْسَانٍ فَتَخَلَّلَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.
وَتَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ، كَمَا يَجُوزُ- ابْتِدَاءً- الْمُبَايَعَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ، وَلَا يَجُوزُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّهِمْ، كَمَا فِي حَقِّنَا.
وَصِحَّةُ التَّعْوِيضِ تَخْتَصُّ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ.
قَالَ: مُسْلِمٌ وَهَبَ لِمُرْتَدٍّ هِبَةً فَعَوَّضَهُ مِنْهَا الْمُرْتَدُّ، ثُمَّ قُتِلَ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ: جَازَتْ الْهِبَةُ، وَلَمْ يَجُزْ تَعْوِيضُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ التَّعْوِيضَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِهِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِهِ يَبْطُلُ إذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ، أَوْ أُلْحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَأَمَّا هِبَةُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُرْتَدِّ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْهِبَةِ مِنْ الْمُرْتَدِّ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي مَالِهِ، وَالْحَجْرُ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ؛ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْهِبَةِ، فَهَذَا أَوْلَى، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَقَدْ مَاتَ حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا- بِلَحَاقِهِ بِدَارٍ الْحَرْبِ- فَكَانَتْ الْهِبَةُ جَائِزَةً، وَقَدْ بَطَلَ التَّعْوِيضُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعْوِيضُهُ صَحِيحٌ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ إلَّا أَنَّ عِنْد أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنْ ثُلُثِهِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الْوَاهِبُ، وَقَدْ عَوَّضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ هِبَتِهِ، ثُمَّ قُتِلَ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ فَإِنَّهُ يَرُدُّ هِبَتَهُ إلَى وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَصَرُّفًا مِنْهُ فِي مَالِهِ، وَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بَيْعًا يَبْطُل عِنْدَهُ إذَا مَاتَ فَتَصَرُّفه هِبَةٌ أَوْلَى، فَتُرَدُّ هِبَتُهُ إلَى وَرَثَتِهِ، وَيُرَدُّ عِوَضُهُ إلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَهْلَكَهُ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ الْمَوْهُوب لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، فَلَا يُسَلِّمُ الْعِوَضُ لَهُ أَيْضًا، وَلَكِنْ إنْ كَانَ قَائِمًا رَدَّهُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ دَيْنًا فِي مَالِهِ- سَوَاءٌ كَانَ الْآخَرُ عَلِمَ بِارْتِدَادِهِ، أَوْ لَمْ يُعْلَمْ-؛ لِأَنَّ حُكْمَ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ لَا يَخْتَلِفُ بِعِلْمِ مَنْ عَامَلَهُ بِرِدَّتِهِ، وَجَهِلَهُ؛ فَإِنَّ التَّوَقُّفَ لَحِقَ الْوَرَثَة، وَحَقُّهُمْ ثَابِتٌ فِي الْحَالَيْنِ.
قَالَ: وَإِذَا وَهَبَ الْمُرْتَدُّ لِلنَّصْرَانِيِّ هِبَةً، أَوْ النَّصْرَانِيُّ لِلْمُرْتَدِّ عَلَى أَنَّ عَوَّضَهُ عَنْهَا خَمْرًا: فَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ كَالْمُسْلِمِ؛ فَإِنَّهُ مُجْبَرٌ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ غَيْر مُقِرٍّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ فَيَبْطُلُ تَصَرُّفُهُ فِي الْخَمْرِ تَعْوِيضًا عَنْ الْهِبَةِ كَمَا يَبْطُلُ مِنْ الْمُسْلِمِ.
قَالَ: وَإِذَا وَهَبَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَن هِبَةً لِمُسْلِمٍ أَوْ وَهَبَهَا لَهُ مُسْلِمٌ فَقَبَضَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ مُسْتَأْمَنًا: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ؛ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ، وَبَقَاء الْعَيْنِ عَلَى حَالِهِ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِنَا صُورَةً فَهُوَ فِي أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا، فَلَا يَتَبَدَّلُ مِلْكُهُ بِالرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ سُبِيَ وَأُخِذَتْ الْهِبَةُ مِنْهُ: لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِزَوَالِ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ؛ فَإِنَّ نَفْسَهُ بِالسَّبْيِ قَدْ تَبَدَّلَتْ، وَخَرَجَ هُوَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ، وَالْمَوْهُوبُ صَارَ مِلْكًا لِلسَّابِي- بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَمْوَالِهِ- إذَا أَخَذَهُ مَعَهُ، فَلَا سَبِيلَ لِلْوَاهِبِ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ مَا بَقِيَ، وَوَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَهَذَا مَالٌ أَزَالَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَا يَأْخُذهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَإِنْ حَضَرَ قَبِلَ الْقِسْمَةِ.
قَالَ: وَإِنْ وَقَعَ الْحَرْبِيُّ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ، وَصَلَتْ تِلْكَ الْهِبَةُ إلَيْهِ- بِشِرَاءٍ، أَوْ غَيْرِهِ- لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ حَادِثٌ لَهُ، وَحَقُّ الْوَاهِبِ كَانَ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ، فَلَا يَثْبُتُ فِي مِلْكٍ حَدَثَ بِسَبَبِ آخَرَ، وَصَارَ اخْتِلَافُ سَبَبِ الْمِلْكِ كَاخْتِلَافِ الْعَيْنِ.
قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ هُوَ الْوَاهِبُ فَسُبِيَ وَوَقَعَ فِي سَهْمِ رَجُلٍ: لَمْ يَكُنْ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ تَبَدَّلَتْ بِالرِّقِّ؛ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ؛ فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ، وَالرِّقّ تَلَفٌ، وَبِمَوْتِ الْوَاهِبِ يَبْطُلُ الْحَقُّ فِي الرُّجُوعِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ كَانَ مُعِيدًا لِلْعَيْنِ إلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ لَا إلَى مِلْكِ نَفْسِهِ، وَبِالْهِبَةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِ مَوْلَاهُ، وَكَذَلِكَ إنْ أُعْتِق لَا يَسْتَطِيعُ الرُّجُوعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ قَدْ بَطَلَ- بِتَبَدُّلِ نَفْسِهِ كَمَا قُلْنَا- وَالسَّاقِطُ مِنْ الْحَقِّ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ.
قَالَ: حَرْبِيٌّ وَهَبَ لِحَرْبِيٍّ هِبَةً، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، أَوْ أَسْلَمَا جَمِيعًا، وَخَرَجَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ؛ فَإِنَّ بِالْإِسْلَامِ يَتَأَكَّدُ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ عَلَى حَالِهِ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَإِنْ كَانَ عَوَّضَهُ مِنْ هِبَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا لِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَهُ بِالْهِبَةِ، وَهُوَ وُصُولُ الْعِوَضِ إلَيْهِ. تَمَّ كِتَابُ الْهِبَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: انْتَهَى شَرْحُ الصِّفَارِ مِنْ الْفُرُوعِ مِنْ الِاسْتِحْسَانُ إلَى الْبُيُوعِ، بِالْمُؤْثَرِ مِنْ الْمُعَانِي مَعَ الْخَبَرِ الْمَسْمُوعِ بِإِمْلَاءِ الْمُلْتَمِسِ لِرَفْعِ الْبَاطِلِ الْمَوْضُوعِ، الْمَنْفِيّ لِأَجْلِهِ الْمَحْصُورِ الْمَمْنُوعِ عَنْ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَالْكِتَاب الْمَجْمُوع الطَّالِب لِلْفَرَجِ بِالدُّعَاءِ وَالْخُشُوعِ فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي بِالْبُكَاءِ وَالدُّمُوعِ، مَقْرُونًا بِالصَّلَاةِ عَلَى سَيِّدِ أَهْلِ الْجُمُوعِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَهْلِ التُّقَى وَالْخُضُوعِ.