فصل: بَابُ الْخَوَارِجِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْخَوَارِجِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اعْلَمْ أَنَّ الْفِتْنَةَ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ، وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ، هَكَذَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَرَّ مِنْ الْفِتْنَةِ أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ مِنْ النَّارِ» وَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْفِتْنَةِ «كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِكَ، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْكَ فَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ أَوْ قَالَ عِنْدَ اللَّهِ» مَعْنَاهُ كُنْ سَاكِنًا فِي بَيْتِكَ لَا قَاصِدًا.
فَإِنَّ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُجْتَمَعِينَ عَلَى وَاحِدٍ، وَكَانُوا آمِنِينَ بِهِ، وَالسَّبِيلُ آمِنَةً فَخَرَجَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ الْخَارِجِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}، وَالْأَمْرُ حَقِيقَةً لِلْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ الْخَارِجِينَ قَصَدُوا أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَإِمَاطَةَ الْأَذَى مِنْ أَبْوَابِ الدِّينِ، وَخُرُوجُهُمْ مَعْصِيَةٌ، فَفِي الْقِيَامِ بِقِتَالِهِمْ نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ فَرْضٌ، وَلِأَنَّهُمْ يُهَيِّجُونَ الْفِتْنَةَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَهَا» فَمَنْ كَانَ مَلْعُونًا عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ يُقَاتِلُ مَعَهُ، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرَهُ لَزِمَ بَيْتَهُ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَاقَةٌ عَلَى الْقِتَالِ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى مَنْ يُطِيقُهُ، وَالْإِمَامُ فِيهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ قَامَ بِالْقِتَالِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُمِرْتُ بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ، وَالنَّاكِثِينَ، وَالْقَاسِطِينَ، وَلِهَذَا بَدَأَ الْبَابَ بِحَدِيثِ كَثِيرٍ الْحَضْرَمِيِّ حَيْثُ قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ كِنْدَةَ، فَإِذَا نَفَرٌ خَمْسَةٌ يَشْتُمُونَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ يَقُولُ: أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَقْتُلَنَّهُ فَتَعَلَّقْتُ بِهِ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ فَأَتَيْتُ بِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ: إنِّي سَمِعْتُ هَذَا يُعَاهِدُ اللَّهَ لَيَقْتُلَنَّكَ قَالَ: إذَنْ وَيْحَكَ مَنْ أَنْتَ قَالَ: أَنَا سِوَارُ الْمُنْقِرِيُّ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَلِّ عَنْهُ.
فَقُلْتُ: أُخَلِّي عَنْهُ، وَقَدْ عَاهَدَ اللَّهَ لَيَقْتُلَنَّكَ.
فَقَالَ: أَفَأَقْتُلُهُ وَلَمْ يَقْتُلْنِي.
قُلْتُ: وَإِنَّهُ قَدْ شَتَمَكَ.
قَالَ: فَاشْتُمْهُ إنْ شِئْتَ أَوْ دَعْهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ خُرُوجٌ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ فَالْإِمَامُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ، فَإِذَا بَلَغَهُ عَزْمُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ فَيَحْبِسَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ لِعَزْمِهِمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَتَهْيِيجِ الْفِتْنَةِ، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُغَلِّبِينَ الْخُرُوجَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْزِمُوا عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ عَزْمِهِ عَلَى قَتْلِهِ، فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُخَلِّيَ عَنْهُ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ مِنْ قَوْلِهِ فَاشْتُمْهُ إنْ شِئْت أَنْ يَنْسُبَهُ إلَى مَا لَيْسَ فِيهِ فَذَلِكَ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ لَا رُخْصَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنْ يَنْسُبَهُ إلَى مَا عَلِمَهُ مِنْهُ، فَيَقُولُ: يَا فَتَّانُ يَا شِرِّيرُ لِقَصْدِهِ إلَى الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ، وَمَا أَشْبَهَهُ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إلَّا مَنْ ظُلِمَ}.
(قَالَ)، وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذْ حَكَّمَتْ الْخَوَارِجُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ لَنْ نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَنْ نَمْنَعَكُمْ الْفَيْءَ مَادَامَ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ إذْ حَكَّمَتْ الْخَوَارِجُ أَيْ نَادَوْا الْحُكْمُ لِلَّهِ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِذَلِكَ إذَا أَخَذَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ لِيُشَوِّشُوا خَاطِرَهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ نِسْبَتَهُ إلَى الْكُفْرِ لِرِضَاهُ بِالْحُكْمَيْنِ، وَتَفْوِيضِهِ الْحُكْمَ إلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ يَعْنِي أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الْمَرْءِ الْحُكْمُ لِلَّهِ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِهِ الْبَاطِلَ، وَهُوَ نِسْبَتُهُ إلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَا لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ، فَالْإِمَامُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ بِالْحَبْسِ وَالْقَتْلِ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ بِذَلِكَ مَا كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى الْخُرُوجِ عِنْدَ ذَلِكَ فَلِهَذَا قَالَ لَنْ نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلَنْ نَمْنَعَكُمْ الْفَيْءَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالشَّتْمِ لَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعَزِّرْهُمْ، وَقَدْ عَرَّضُوا بِنِسْبَتِهِ إلَى الْكُفْرِ، وَالشَّتْمُ بِالْكُفْرِ مُوجِبٌ لِلتَّعْزِيرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ إذَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ تَحْتَ رَايَةِ أَهْلِ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُمْ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ دَفْعًا لِقِتَالِهِمْ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا مَعْنَاهُ حَتَّى تَعْزِمُوا عَلَى الْقِتَالِ بِالتَّجَمُّعِ وَالتَّحَيُّزِ عَنْ أَهْلِ الْعَدْلِ.
(قَالَ) وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ لَا تَتْبَعُوا مُدْبِرًا، وَلَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا، وَلَا تُدَفِّفُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ، وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: إذَا قَاتَلَ أَهْلُ الْعَدْلِ أَهْلَ الْبَغْيِ فَهَزَمُوهُمْ فَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَتْبَعُوا مُدْبِرًا؛ لِأَنَّا قَاتَلْنَاهُمْ لِقَطْعِ بَغْيِهِمْ، وَقَدْ انْدَفَعَ حِينَ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ يَرْجِعُونَ إلَيْهَا، فَإِنَّ بَقِيَ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنَّهُ يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَا تَرَكُوا قَصْدَهُمْ لِهَذَا حِينَ وَلَّوْا مِنْهُمْ مُنْهَزِمِينَ بَلْ تَحَيَّزُوا إلَى فِئَتِهِمْ لِيَعُودُوا فَيُتْبَعُونَ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا يُتْبَعُ الْمُدْبِرُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِبَقَاءِ الْفِئَةِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ لَا يَقْتُلُونَ الْأَسِيرَ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ، وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَحْلِفُ مَنْ يُؤْسَرُ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَلَيْهِ قَطُّ ثُمَّ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ فِئَةٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقْتَلَ أَسِيرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَا انْدَفَعَ شَرُّهُ، وَلَكِنَّهُ مَقْهُورٌ، وَلَوْ تَخَلَّصَ انْحَازَ إلَى فِئَتِهِ، فَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي قَتْلِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَرِئَ عَادَ إلَى تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ بِقُوَّةِ تِلْكَ الْفِئَةِ، وَلِأَنَّ فِي قَتْلِ الْأَسِيرِ وَالتَّجْهِيزِ عَلَى الْجَرِيحِ كَسْرُ شَوْكَةِ أَصْحَابِهِ، فَإِذَا بَقِيَتْ لَهُمْ فِئَةٌ فَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ، وَقَوْلُهُ لَا يُكْشَفُ سِتْرٌ قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يُسْبَى الذَّرَارِيُّ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ عَلَى سَبِيلِ التَّمَلُّكِ بِطَرِيقِ الِاغْتِنَامِ، وَبِهِ نَقُولُ لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَلَا يُتَمَلَّكُ أَمْوَالُهُمْ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ فِيهَا بِكَوْنِهَا مُحْرَزَةً بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ التَّمَلُّكَ بِالْقَهْرِ يَخُصُّ بِمَحَلٍّ لَيْسَ فِيهِ عِصْمَةُ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ.
(قَالَ) وَمَا أَصَابَ أَهْلُ الْعَدْلِ مِنْ كُرَاعِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَسِلَاحِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ احْتَاجُوا إلَى سِلَاحِ أَهْلِ الْعَدْلِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَقَدْ «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَفْوَانَ دُرُوعًا فِي حَرْبِ هَوَازِنَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَاهُ حَيْثُ قَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ»، فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي سِلَاحِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ فَفِي سِلَاحِ مَنْ يُقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَوْلَى، فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا رُدَّ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِزَوَالِ الْحَاجَةِ، وَكَذَلِكَ مَا أُصِيبَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُرَدُّ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَمَلَّكْ ذَلِكَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَالْإِحْرَازِ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَتِمَّ، وَتَمَامُهُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارٍ تُخَالِفُ دَارَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْفِئَتَيْنِ وَاحِدَةٌ.
(قَالَ) وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَلْقَى مَا أَصَابَ مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ فِي الرَّحْبَةِ فَمَنْ عَرَفَ شَيْئًا أَخَذَهُ حَتَّى كَانَ آخِرُ مَنْ عَرَفَ شَيْئًا لِإِنْسَانٍ قَدْرَ حَدِيدٍ فَأَخَذَهَا، وَلَمَّا قِيلَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ، أَلَا تُقَسِّمُ بَيْنَنَا مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا قَالَ: فَمَنْ يَأْخُذُ مِنْكُمْ عَائِشَةَ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ اسْتِبْعَادًا لِكَلَامِهِمْ وَإِظْهَارًا لِخَطَئِهِمْ فِيمَا طَلَبُوا.
وَإِذَا أُخِذَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنْ كَانَتْ تُقَاتِلُ حُبِسَتْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَا تُقْتَلُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْتَلُ عَلَى رِدَّتِهَا فَكَيْفَ تُقْتَلُ إذَا كَانَتْ بَاغِيَةً، وَفِي حَالِ اشْتِغَالِهَا بِالْقِتَالِ إنَّمَا جَازَ قَتْلُهَا دَفْعًا، وَقَدْ انْدَفَعَ ذَلِكَ حِينَ أُسِرَتْ كَالْوَلَدِ يَقْتُلُ وَالِدَهُ دَفْعًا إذَا قَصَدَهُ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ مَا انْدَفَعَ قَصْدُهُ، وَلَكِنَّهَا تُحْبَسُ لِارْتِكَابِهَا الْمَعْصِيَةَ، وَيَمْنَعُهَا مِنْ الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ.
وَإِذَا أُخِذَ رَجُلٌ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ كَانَ يُقَاتِلُ، وَكَانَ عَسْكَرُ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى حَالِهِ قُتِلَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يُقَاتِلُ عَبْدًا كَانَ أَوْ حُرًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ قَتْلِ الْأَسِيرِ إذَا بَقِيَتْ لَهُ فِئَةٌ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا يَخْدِمُ مَوْلَاهُ، وَلَمْ يُقَاتِلْ حُبِسَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَحَدٌ، وَلَمْ يَقْتُلْ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُقَاتِلًا، وَالْقَتْلُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ لِلدَّفْعِ، فَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ لَا يُقْتَلُ، وَلَكِنَّهُ مَالُ الْبَاغِي، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُوقَفُ حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يُوقَفُ الْعَبْدُ بِحَبْسِهِ لِكَيْ لَا يَهْرَبَ فَيَعُودَ إلَى مَوْلَاهُ.
وَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مِنْ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ إلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: أَمَّا الْكُرَاعُ فَيُبَاعُ، وَيُحْبَسُ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ فَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى صَاحِبِهِ الْبَاغِي، وَلِأَنَّ حَبْسَ الثَّمَنِ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ حَبْسِ الْكُرَاعِ فَلِهَذَا يَبِيعُهُ، وَيُحْبَسُ ثَمَنُهُ حَتَّى يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ فَيُرَدُّ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَأَمَّا السِّلَاحُ فَيَمْسِكُهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الرَّدِّ فِي الْحَالِ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَلِهَذَا يُوقَفُ لِتَفَرُّقِ الْجَمْعِ.
فَإِنَّ طَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُوَادَعَةَ أُجِيبُوا إلَيْهَا إنْ كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ قَدْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْمُوَادَعَةِ لِحِفْظِ قُوَّةِ أَنْفُسِهِمْ إذَا لَمْ يَقْوَوْا عَلَى قِتَالِهِمْ، وَكَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّينَ يَجُوزُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا أُخِذُوا مُلِكُوا؛ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ مَا صَارُوا أَهْلَ حَرْبٍ تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ، وَهَهُنَا إنْ أُخِذُوا لَا يُمْلَكُونَ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَ الْخَوَارِجِ لَا تُغْنَمُ بِحَالٍ.
وَإِذَا تَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ، وَدَخَلُوا إلَى أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يُؤْخَذُوا بِشَيْءٍ مِمَّا أَصَابُوا، يَعْنِي بِضَمَانِ مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ، وَالْأَمْوَالِ، وَمُرَادُهُ إذَا أَصَابُوا ذَلِكَ بَعْدَ مَا تَجَمَّعُوا، وَصَارُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، فَأَمَّا مَا أَصَابُوا قَبْلَ ذَلِكَ ضَامِنُونَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا فِي حَقِّهِمْ بِالْمُحَاجَّةِ وَالْإِلْزَامِ بِالدَّلِيلِ، فَلَا يُعْتَبَرُ تَأْوِيلُهُمْ الْبَاطِلُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا صَارَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ فَقَدْ انْقَطَعَ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالدَّلِيلِ حِسًّا فَيُعْتَبَرُ تَأْوِيلُهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْهُمْ كَتَأْوِيلِ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ: وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُتَوَافِرِينَ فَأَنْفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُلَّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُلَّ مَالٍ أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَمَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي أَيْدِيهمْ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا ذَلِكَ بِالْأَخْذِ كَمَا أَنَّا لَا نَمْلِكُ عَلَيْهِمْ مَا لَهُمْ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ الْمُتَقَاتِلَتَيْنِ بِتَأْوِيلِ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ أَصْلٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: أُفْتِيهِمْ إذَا تَابُوا بِأَنْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ، وَالْأَمْوَالِ، وَلَا أُلْزِمُهُمْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ الْإِسْلَامَ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِي التَّأْوِيلِ إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ كَانَ مُنْقَطِعًا لِلْمَنَعَةِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَدَاءِ الضَّمَانِ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنْ يُفْتَى بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَلَا يُفْتِي أَهْلُ الْعَدْلِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي قِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ مُمْتَثِلُونَ لِلْأَمْرِ.
وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَدْ اسْتَعَانُوا بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى حَرْبِهِمْ فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَيْسَ بِنَقْضٍ لِلْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ مُسْلِمُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الطَّائِفَتَيْنِ بِاسْمِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا، فَاَلَّذِينَ انْضَمُّوا إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلِهَذَا لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ فِيمَا أَصَابُوا فِي الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا تَحْتَ رَايَةِ الْبُغَاةِ فَحُكْمُهُمْ فِيمَا فَعَلُوا كَحُكْمِ الْبُغَاةِ.
وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ إذَا لَقُوا أَهْلَ الْبَغْيِ أَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى الْعَدْلِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَعَثَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى أَهْلِ حَرُورَاءَ حَتَّى نَاظَرَهُمْ، وَدَعَاهُمْ إلَى التَّوْبَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ رُبَّمَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ بِالْوَعْظِ وَالْإِنْذَارِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّ الْكَيَّ آخِرُ الدَّوَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ، وَلِهَذَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ بِكُلِّ مَا يَجُوزُ الْقِتَالُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَالرَّمْيِ بِالنَّبْلِ، وَالْمَنْجَنِيقِ، وَارِسَالِ الْمَاءِ، وَالنَّارِ عَلَيْهِمْ، وَالْبَيَاتِ بِاللَّيْلِ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ فَرْضٌ كَقِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْمُرْتَدِّينَ.
وَإِذَا وَقَعَتْ الْمُوَادَعَةُ بَيْنَهُمْ فَأَعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ رَهْنًا عَلَى أَنَّهُ أَيُّهُمَا غَدَرَ فَقَتَلَ الرَّهْنَ فَدِمَاءُ الْآخَرِينَ لَهُمْ حَلَالٌ، فَغَدَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ، وَقَتَلُوا الرَّهْنَ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ يَنْبَغِ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْتُلُوا الرَّهْنَ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْبِسُونَهُمْ حَتَّى يَهْلِكَ أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ يَتُوبُوا؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا آمِنِينَ فِينَا، إمَّا بِالْمُوَادَعَةِ أَوْ بِأَنْ أَعْطَيْنَاهُمْ الْأَمَانَ حِينَ أَخَذْنَاهُمْ رَهْنًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْغَدْرُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا يُؤَاخَذُونَ بِذَنْبِ الْغَيْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَلَكِنَّهُ لَا يُخَلِّي سَبِيلَهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ فِتْنَتَهُمْ، وَإِنْ يَعُودُوا إلَى فِئَتِهِمْ فَيُحَارِبُونَ أَهْلَ الْعَدْلِ، فَلِهَذَا حُبِسُوا إلَى أَنْ يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَغَدَرَ الْمُشْرِكُونَ حُبِسَ رَهْنُهُمْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُسْلِمُوا، وَإِنْ أَبَوْا فَهُمْ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ يُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي أَيْدِينَا آمِنِينَ فَلَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ بِغَدْرٍ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ اُحْتُبِسُوا فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا رَاضِينَ بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا إلَى أَنْ يُرَدَّ عَلَيْنَا رَهْنُنَا، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ حِينَ قَتَلُوا رَهْنَنَا فَقُلْنَا: إنَّهُمْ يُحْتَبَسُونَ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْكَافِرُ لَا يُتْرَكُ فِي دَارِنَا مُقِيمًا إلَّا بِجِزْيَةٍ فَتُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا، وَيُحْكَى أَنَّ الدَّوَانِيقِيَّ كَانَ اُبْتُلِيَ بِهَذَا الصُّلْحِ مَعَ أَهْلِ الْمَوْصِلِ، ثُمَّ إنَّهُمْ غَدَرُوا فَقَتَلُوا رَهْنَهُ فَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ لِيَسْتَشِيرَهُمْ فِي رَهْنِهِمْ فَقَالُوا يُقْتَلُونَ كَمَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَفِيهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَاكِتٌ فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ.
قَالَ: لَيْسَ لَك ذَلِكَ فَإِنَّكَ شَرَطْتَ لَهُمْ مَالًا يَحِلُّ، وَشَرَطُوا لَكَ مَا لَا يَحِلُّ «وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فَاغْلُظْ عَلَيْهِ الْقَوْلِ، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَالَ: مَا دَعَوْتُكَ لِشَيْءٍ إلَّا أَتَيْتَنِي بِمَا أَكْرَهُ ثُمَّ جَمَعَهُمْ مِنْ الْغَدِ، وَقَالَ قَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الصَّوَابَ مَا قُلْتَ فَمَاذَا نَصْنَعُ بِهِمْ قَالَ: سَلْ الْعُلَمَاءَ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا بِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ فَقَالَ: لِمَ وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ قَالَ: لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا إلَى أَنْ يُرَدَّ عَلَيْنَا رَهْنُنَا، وَقَدْ تَحَقَّقَ فَوْتُ ذَلِكَ فَكَانُوا رَاضِينَ بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْكَافِرُ إذَا رَضِيَ بِذَلِكَ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ وَرَدَّهُ إلَى بَيْتِهِ بِمَحْمَلٍ.
وَإِذَا أَمَّنَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ جَازَ أَمَانُهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ قَتْلِ الْبَاغِي لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ وُجُوبِ قَتْلِ الْمُشْرِكِ ثُمَّ هُنَاكَ يَصِحُّ أَمَانُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» فَكَذَلِكَ هَهُنَا، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُنَاظِرَهُ فَعَسَى أَنْ يَتُوبَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْمَنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، وَكَذَا إنْ قَالَ: لَا سَبِيلَ عَلَيْكَ أَوْ أَمَّنَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ النَّبَطِيَّةِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَيُّمَا مُسْلِمٍ قَالَ لِكَافِرٍ مُبَرَّسٍ أَوْ لَا يُذْهِلُ أَوْلَادَهُ فَهُوَ أَمَانٌ، وَكُلُّ مَنْ يَصِحُّ أَمَانُهُ لِلْحَرْبِيِّ يَصِحُّ أَمَانُهُ لِلْبَاغِي كَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ الَّذِي يُقَاتِلُ مَعَ مَوْلَاهُ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا يُقَاتِلُ مَعَ مَوْلَاهُ فَأَمَانُهُ لِأَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى الْخِلَافِ.
وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الذِّمِّيِّ، وَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَمَانُهُ لِلْكُفَّارِ.
وَإِذَا قَاتَلَ النِّسَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَهْلَ الْعَدْلِ، وَسِعَهُمْ قَتْلُهُنَّ دَفْعًا لِقِتَالِهِنَّ، فَإِذَا لَمْ يُقَاتِلْنَ لَمْ يَسْعَهُمْ قِتَالُهُنَّ كَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ بَلْ أَوْلَى، فَهَذَا الْقِتَالُ دَفْعُ مَحْضٍ، فَإِذَا قَاتَلْنَ قُتِلْنَ لِلدَّفْعِ، وَإِذَا لَمْ يُقَاتِلْنَ فَلَا حَاجَةَ إلَى دَفْعِهِنَّ.
وَإِذَا كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي يَدِي أَهْلِ الْبَغْيِ تُجَّارٌ أَوْ أَسْرَى فَجَنَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ لَمْ يُقْتَصَّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ حَيْثُ لَا تَصِلْ إلَيْهِمْ يَدُ إمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ فَكَأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
وَلَا يَقْبَلُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ فَسَقَةٌ، وَمَا لَمْ يَخْرُجُوا فَفِسْقُهُمْ فِسْقُ اعْتِقَادٍ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا خَرَجُوا فَفِسْقُهُمْ فِسْقُ التَّعَاطِي، فَكَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ فَكَذَلِكَ كِتَابُ الْفَاسِقِ، وَلِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا، فَرُبَّمَا حَكَمَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاسْتِحْلَالِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ.
وَإِنْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى مِصْرٍ فَاسْتَعْمَلُوا عَلَيْهِ قَاضِيًا مِنْ أَهْلِهِ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنَّهُ يُقِيمُ الْحُدُودَ، وَالْقِصَاصَ، وَالْأَحْكَامَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ لَا يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ مِنْ جِهَةِ بَعْضِ بَنِي أُمَيَّةَ وَالْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا اسْتَخْلَفَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِقَضَاءِ الْقُضَاةِ الَّذِينَ تَقَلَّدُوا مِنْ جِهَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْعَدْلِ، وَدَفْعَ الظُّلْمِ عَنْ الْمَظْلُومِ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إلَّا أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ الرَّعِيَّةِ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إلْزَامِ ذَلِكَ، فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِقُوَّةِ مَنْ قَلَّدَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ قَلَّدَهُ بَاغِيًا أَوْ عَادِلًا، فَإِنَّ شَرْطَ التَّقْلِيدِ التَّمَكُّنُ وَقَدْ حَصَلَ، فَإِنَّ كَتَبَ هَذَا الْقَاضِي كِتَابًا إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ أَجَازَهُ إذَا كَانَ هَذَا الْقَاضِي الَّذِي أَتَاهُ الْكِتَابُ يَعْرِفُ الشُّهُودَ الَّذِينَ شَهِدُوا عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي، وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا عِنْدَهُ بِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ إذَا نَقَلَ الْقَاضِي بِكِتَابِهِ شَهَادَتَهُمْ إلَى مَجْلِسِهِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَا يُجِيزُ كِتَابَهُ كَمَا لَوْ شَهِدُوا عِنْدَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَقْضِ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهُمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ أَنَّ مَنْ يَسْكُنُ فِيهِمْ فَهُوَ مِنْهُمْ فَمَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِالظَّاهِرِ.
(قَالَ) وَمَا أَصَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْقَتْلِ وَالْأَمْوَالِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا وَيُحَارِبُوا ثُمَّ صَالَحُوا بَعْدَ الْخُرُوجِ عَلَى إبْطَالِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، وَأَخَذُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ الْقِصَاصِ وَالْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَزِمَهُمْ لِلْعِبَادِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ إسْقَاطِ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَكَانَ شَرْطُهُمْ إسْقَاطَ ذَلِكَ عَنْهُمْ شَرْطًا بَاطِلًا فَلَا يُوَفِّي بِهِ.
وَيُصْنَعُ بِقَتْلَى أَهْلِ الْعَدْلِ مَا يُصْنَعُ بِالشَّهِيدِ فَلَا يُغَسَّلُونَ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ هَكَذَا فَعَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَبِهِ أَوْصَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حِينَ اُسْتُشْهِدُوا، وَقَدْ رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
وَلَا يُصَلَّى عَلَى قَتْلَى أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلَا يُغَسَّلُونَ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُمْ يُدْفَنُونَ لِإِمَاطَةِ الْأَذَى هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى النَّهْرَوَانِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ الدُّعَاءُ لَهُمْ، وَالِاسْتِغْفَارُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}، وَقَدْ مَنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِغُسْلِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ نَوْعُ مُوَالَاةٍ مَعَهُمْ، وَالْعَادِلُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْمُوَالَاةِ مَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي حَيَاةِ الْبَاغِي فَكَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هَذَا إذَا بَقِيَتْ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فَلَا بَأْسَ لِلْعَادِلِ بِأَنْ يُغَسِّلَ قَرِيبَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ الْأَسِيرِ، وَالتَّجْهِيزِ عَلَى الْجَرِيحِ؛ لِأَنَّ فِي الْقِيَامِ بِذَلِكَ مُرَاعَاةَ حَقِّ الْقَرَابَةِ، وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ.
(قَالَ) وَأَكْرَهُ أَنْ تُؤْخَذَ رُءُوسُهُمْ فَيُطَافُ بِهَا فِي الْآفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ، وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ»، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَنَعَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ حُرُوبِهِ، وَهُوَ الْمُتَّبَعُ فِي الْبَابِ، وَلَمَّا حُمِلَ رَأْسُ يَبَابَ الْبِطْرِيقِ إلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَرِهَهُ فَقِيلَ: إنَّ الْفُرْسَ، وَالرُّومَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَسْنَا مِنْ الْفُرْسِ، وَلَا الرُّومِ يَكْفِينَا الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ، وَقَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إنْ كَانَ فِيهِ كَسْرُ شَوْكَتِهِمْ أَوْ طُمَأْنِينَةُ قَلْبِ أَهْلِ الْعَدْلِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حَمَلَ رَأْسَ أَبِي جَهْلٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ.
وَإِذَا قَتَلَ الْعَادِلُ فِي الْحَرْبِ أَبَاهُ الْبَاغِي وَرِثَهُ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِحَقٍّ فَلَا يُحْرِمُهُ الْمِيرَاثَ كَالْقَتْلِ رَجْمًا أَوْ فِي قِصَاصٍ، وَهَذَا لِأَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ عُقُوبَةٌ شُرِعَتْ جَزَاءً عَلَى قَتْلِ مَحْظُورٍ فَالْقَتْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ، وَكَذَلِكَ الْبَاغِي إذَا قَتَلَ مُوَرِّثَهُ الْعَادِلَ يَرِثُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَرِثُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيُحْرِمُهُ الْمِيرَاثَ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ظُلْمًا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَهَذَا لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ تَأْوِيلُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مُوَرِّثِهِ الْعَادِلِ، وَلَا عَلَى سَائِرِ وَرَثَتِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً يُوَضِّحُهُ أَنَّ تَأْوِيلَ أَهْلِ الْبَغْيِ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ يُعْتَبَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ فِي إسْقَاطِ ضَمَانِ النَّفْسِ، وَالْمَالِ لَا فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ إذْ لَا تَوَارُثَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، فَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: الْمُقَاتَلَةُ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ بِتَأْوِيلِ الدِّينِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْأَحْكَامِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْآثَامِ كَمَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ، وَكَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَمَا أَنَّ قَتْلَ الْبَاغِي مُوَرِّثَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَتْلُ الْحَرْبِيِّ كَذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ، حَتَّى إذَا جَرَحَ الْكَافِرُ مُوَرِّثَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ وَرِثَهُ، وَكَمَا أَنَّ اعْتِقَادَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْعَادِلِ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ سُقُوطِ حَقِّهِ فِي الضَّمَانِ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَلَكِنْ قِيلَ: لَمَّا انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِانْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَى التَّأْوِيلِ جُعِلَ الْفَاسِدُ مِنْ التَّأْوِيلِ كَالصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ.
وَيُكْرَهُ لِلْعَادِلِ أَنْ يَلِيَ قَتْلَ أَخِيهِ وَأَبِيهِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، أَمَّا فِي حَقِّ الْأَبِ لَا يُشْكِلُ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ قَتْلُ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} فَالْمُرَادُ فِي الْأَبَوَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ كَذَلِكَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} وَلَمَّا اسْتَأْذَنَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ كَرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ «يَكْفِيكَ ذَلِكَ غَيْرُكَ»، وَكَذَلِكَ «لَمَّا اسْتَأْذَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ»، وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ أَخِيهِ إذَا كَانَ مُشْرِكًا، وَيُكْرَهُ إذَا كَانَ بَاغِيًا؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْبَاغِي اجْتَمَعَ حُرْمَتَانِ حُرْمَةُ الْقَرَابَةِ، وَحُرْمَةُ الْإِسْلَامِ فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ الْقَصْدِ إلَى قَتْلِهِ، وَفِي حَقِّ الْكَافِرِ إنَّمَا وُجِدَ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْقَرَابَةِ، فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْقَتْلِ كَالْحُرْمَةِ فِي حَقِّ الدِّينِ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ.
فَإِنَّ قَصَدَهُ أَبُوهُ الْمُشْرِكُ أَوْ الْبَاغِي لِيَقْتُلَهُ كَانَ لِلِابْنِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ وَيَقْتُلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِفِعْلِهِ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ لَا قَتْلَ أَبِيهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَدْفَعَ قَصْدَ الْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي صَفِّ أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي صَفِّ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِقِتَالِ الْفَرِيقَيْنِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ وَاقِفًا فِي صَفِّهِمْ فَقِتَالُهُ حَلَالٌ وَالْقِتَالُ الْحَلَالُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا، وَلِأَنَّهُ أَهْدَرَ دَمَهُ حِينَ وَقَفَ فِي صَفِّ أَهْلِ الْبَغْيِ.
وَإِذَا دَخَلَ الْبَاغِي عَسْكَرَ أَهْلِ الْعَدْلِ بِأَمَانٍ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا، وَهَذَا لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي دَمِهِ حِينَ كَانَ دُخُولُهُ بِأَمَانٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ تَبْلِيغُهُ مَأْمَنَهُ لِيَعُودَ حَرْبًا، فَالْقِصَاصُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ لِلْعِصْمَةِ، وَالتَّقَوُّمُ فِي دَمِهِ لِلْحَالِ.
(قَالَ) وَإِذَا حَمَلَ الْعَادِلُ عَلَى الْبَاغِي فِي الْمُحَارَبَةِ فَقَالَ: قَدْ تُبْتُ وَأَلْقَى السِّلَاحَ كُفَّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقَاتِلُهُ لِيَتُوبَ، وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَهُوَ كَالْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ، وَلِأَنَّهُ يُقَاتِلُهُ دَفْعًا لِبَغْيِهِ وَقِتَالِهِ، وَقَدْ انْدَفَعَ ذَلِكَ حِينَ أَلْقَى السِّلَاحَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كُفَّ عَنِّي حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِي فَلَعَلِّي أُتَابِعُكَ، وَأُلْقِي السِّلَاحَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْمَنَ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ إلَى ذَلِكَ رَجَاءً أَنْ يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِدُونِ الْقِتَالِ، وَفِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَلْزَمُهُ إعْطَاءُ الْأَمَانِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْمُحَارَبَةِ هُنَاكَ شِرْكُهُ، وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ، وَهَهُنَا أَهْلُ الْبَغْيِ مُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا يُقَاتَلُونَ لِدَفْعِ قِتَالِهِمْ، فَإِذَا أَلْقَى السِّلَاحَ وَاسْتَمْهَلَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْهِلَهُ، وَلَوْ قَالَ أَنَا عَلَى دِينِكَ، وَمَعَهُ السِّلَاحُ لَمْ يَكُفَّ عَنْهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا قَالَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبُغَاةَ مُسْلِمُونَ، وَقَدْ كَانَ الْعَادِلُ مَأْمُورًا بِقِتَالِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ إيَّاهُ بِذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا دَامَ حَامِلًا لِلسِّلَاحِ فَهُوَ قَاصِدٌ لِلْقِتَالِ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ فَيَقْتُلُهُ دَفْعًا لِقِتَالِهِ.
وَإِذَا غَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى مَدِينَةٍ فَقَاتَلَهُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فَهَزَمُوهُمْ فَأَرَادُوا أَنْ يَسْبُوا ذَرَارِيَّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَسَعْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا دُونَ الذَّرَارِيِّ؛ لِأَنَّ ذَرَارِيَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُسْبَوْنَ، فَإِنَّ الْبُغَاةَ ظَالِمُونَ فِي سَبْيِهِمْ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ الْمَظْلُومِ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَتَّى تَأْخُذُوا عَلَى يَدِي الظَّالِمِ فَتَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا».
وَإِذَا وَادَعَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يَسَعْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَغْزُوهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَانُ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ فِي فِئَةٍ مُمْتَنِعَةٍ نَافِذٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ غَدَرَ بِهِمْ أَهْلُ الْبَغْيِ فَسَبَوْهُمْ لَمْ يَشْتَرِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ السَّبَايَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي مُوَادَعَةٍ وَأَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاَلَّذِينَ غَدَرُوا بِهِمْ لَا يَمْلِكُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يُؤَمَّرُونَ بِإِعَادَتِهِمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ حَتَّى إذَا تَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ أُمِرُوا بِرَدِّهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَهْلُ الْعَدْلِ هُمْ الَّذِينَ وَادَعُوهُمْ.
وَإِنْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ حَتَّى أَلْجَؤُهُمْ إلَى دَارِ الشِّرْكِ فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ أَهْلَ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الشِّرْكِ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِأَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ حُكْمُ أَهْلِ الشِّرْكِ هُوَ الظَّاهِرُ.
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعِينَ أَهْلُ الْعَدْلِ بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْخَوَارِجِ إذَا كَانَ حُكْمُ أَهْلِ الْعَدْلِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِإِعْزَازِ الدِّينِ، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَيْهِمْ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِمْ بِالْكِلَابِ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْبَغْيِ مَنَعَةٌ، وَإِنَّمَا خَرَجَ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ عَلَى تَأْوِيلٍ يُقَاتِلَانِ ثُمَّ يَسْتَأْمِنَانِ أُخِذَا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ اللُّصُوصِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّأْوِيلَ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ الْمَنَعَةِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا لِبَقَاءِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالْمُحَاجَّةِ، وَالدَّلِيلُ أَنَّهُمَا مُعْتَقِدَانِ الْإِسْلَامَ فَيَكُونَانِ كَاللِّصَّيْنِ فِي جَمِيعِ مَا أَصَابَا.
وَإِذَا اشْتَدَّ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فِي الْمِصْرِ بِعَصَا أَوْ حَجَرٍ فَقَتَلَهُ الْمَشْدُودُ عَلَيْهِ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: إذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لَوْ قَتَلَهُ بِهِ قَتَلَهُ فَقَتَلَهُ الْمَشْدُودُ عَلَيْهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الدِّيَاتِ أَنَّ الْقَتْلَ بِالْحَجَرِ وَالْعَصَا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا مَا لَا يَثْبُتُ مِنْ الْحَجَرِ الْكَبِيرِ وَالْعَصَا بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِهِ، بِخِلَافِ الْعَصَا الصَّغِيرِ، ثُمَّ الْمَشْدُودُ عَلَيْهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ شَرِّ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْقَتْلِ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى مَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُ أَوْ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ شَرْعًا لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمَا الْحَجَرُ الْكَبِيرُ كَالسِّلَاحِ فَنَقُولُ: الشَّادُّ لَوْ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، فَبِمُجَرَّدِ قَصْدِهِ يُهْدَرُ دَمُهُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَدَرَ الدَّمِ وَابَاحَةَ الْقَتْلِ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ أَسْرَعُ ثُبُوتًا حَتَّى كَانَ لِلِابْنِ أَنْ يَقْتُلَ أَبَاهُ إذَا قَصَدَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ إذَا قَصَدَ قَتْلَ إنْسَانٍ بِالسِّلَاحِ يُبَاحُ قَتْلُهُ دَفْعًا، وَإِنْ كَانَ لَوْ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، ثُمَّ مَا لَا يَثْبُتُ عِنْدَهُمَا آلَةَ الْقَتْلِ كَالسِّلَاحِ، فَالْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ دَفْعُ شَرِّ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعَصَا وَالْحَجَرُ لَيْسَ بِآلَةِ الْقَتْلِ فَهُوَ لَا يَدْفَعُ الْقَتْلَ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَدْفَعُ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ، وَبِالْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْأَذَى لَا يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ، وَلِأَنَّ الشَّادَّ لَوْ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، فَبِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ أَيْضًا لَا يُهْدَرُ دَمُهُ.
(فَإِنْ قِيلَ) إنْ كَانَ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الْقَتْلِ بِخِلَافِ الْجُرْحِ، وَحُرْمَةُ أَطْرَافِهِ لَا تَكُونُ دُونَ حُرْمَةِ مَالِهِ، وَلَوْ قَصَدَ مَالَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ دَفْعًا فَهُنَا أَوْلَى.
(قُلْنَا) بِنَاءُ هَذَا الْحُكْمُ عَلَى قَصْدِهِ، وَقَصْدُهُ هَهُنَا النَّفْسُ لَا الطَّرَفُ، وَالْمَشْدُودُ عَلَيْهِ لَا يَخَافُ الْقَتْلَ مِنْ جِهَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمِصْرِ بِالنَّهَارِ فَيَلْحَقُهُ الْغَوْثُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلِهَذَا لَا يُبَاحُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِاللَّيْلِ أَوْ كَانَ بِاللَّيْلِ أَوْ كَانَ بِالْمَفَازَةِ؛ لِأَنَّ الْغَوْثَ بِالْبُعْدِ مِنْهُ عَادَةً، فَإِلَى أَنْ يَنْتَبِهَ النَّاسُ، وَيَخْرُجُوا رُبَّمَا يَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ هُوَ دَافِعًا شَرَّ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ، وَبِخِلَافِ السِّلَاحِ فَإِنَّهُ آلَةُ الْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَارِحٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْغَوْثُ فَيُبَاحُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ دَفْعًا فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ قَصْدِهِ إلَى الْمَالِ أَوْ إلَى النَّفْسِ بَلْ هُوَ عَلَى التَّقْسِيمِ الَّذِي قُلْنَا سَوَاءٌ أَرَادَ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ، وَمَقْصُودُهُ مِنْ إيرَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَهُنَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللُّصُوصِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنَّ فِي حَقِّ اللُّصُوصِ الْمَنَعَةَ تَجَرَّدَتْ عَنْ تَأْوِيلٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ أَنَّ الْمُغَيِّرَ لِلْحُكْمِ اجْتِمَاعُ الْمَنَعَةِ وَالتَّأْوِيلِ، وَأَنَّهُ إذَا تَجَرَّدَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ لَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْمُصَابِ، وَالْعَبْدُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا كَالْحُرِّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ لُصُوصًا غَيْرُ مُتَأَوِّلِينَ غَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ فَقَتَلُوا الْأَنْفُسَ وَاسْتَهْلَكُوا الْأَمْوَالَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ أُخِذُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ لِتَجَرُّدِ الْمَنَعَةِ عَنْ التَّأْوِيلِ.
وَإِذَا غَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى مَدِينَةٍ فَاسْتَعْمَلُوا عَلَيْهَا قَاضِيًا فَقَضَى بِأَشْيَاءَ، ثُمَّ ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ فَرُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ مِنْهَا مَا كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَضَهَا احْتَاجَ إلَى إعَادَةِ مِثْلِهَا، وَالْقَاضِي لَا يَشْتَغِلُ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَلَا يَنْقُضُ شَيْئًا لِيُعِيدَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَضَى بِمَا رَآهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ فَلَا يَنْقُضُ ذَلِكَ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ قَضَايَا مَنْ تَقَلَّدَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ.
وَإِذَا اجْتَمَعَ عَسْكَرُ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَغَنِمُوا غَنِيمَةً اشْتَرَكُوا فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ اشْتَرَكُوا فِي الْقِتَالِ لِإِعْزَازِ الدِّينِ، وَفِي إحْرَازِ الْفَيْءِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَنْ نَمْنَعَكُمْ الْفَيْءَ مَادَامَ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَيَأْخُذُ خُمُسَهَا أَهْلُ الْعَدْلِ لِيَصْرِفُوا ذَلِكَ إلَى الْمَصَارِفِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَنَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يَصْرِفُونَ الْخُمُسَ إلَى مَصَارِفِهِ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْعَدْلِ يُؤْمَرُونَ بِأَنْ يَتَكَلَّفُوا لِتَكُونَ الرَّايَةَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إذَا كَانُوا هُمْ الَّذِينَ أَخَذُوا الْخُمُسَ، وَكَذَلِكَ إنْ غَنِمَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الْآخَرِ اشْتَرَكُوا فِيهَا؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ رِدْءُ الْبَعْضِ، وَقَدْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِحْرَازِ.
وَكَذَلِكَ إذَا غَزَا الْإِمَامُ بِجُنْدِ الْمُسْلِمِينَ فَمَاتَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، وَاخْتَلَفَ الْجُنْدُ فِيمَنْ يَسْتَخْلِفُونَهُ، ثُمَّ غَنِمُوا أَوْ غَنِمَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ اشْتَرَكُوا فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ يَجْتَمِعُونَ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازِ الدِّينِ فَيَشْتَرِكُونَ فِي الْمُصَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جَيْشًا لَهُمْ مَنَعَةٌ لَوْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ إذْن الْإِمَامِ خُمِّسَ مَا أَصَابُوا وَقُسِّمَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ فَكَذَلِكَ حَالُ الَّذِينَ قَاتَلُوا بَعْدَ مَا مَاتَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَخْلِفُوا غَيْرَهُ.
وَإِذَا اسْتَعَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ قَالَ يُسْبَى أَهْلُ الْحَرْبِ، وَلَيْسَتْ اسْتِعَانَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ بِهِمْ بِأَمَانٍ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ يَدْخُلُ دَارَ الْإِسْلَامِ تَارِكًا لِلْحَرْبِ، وَهَؤُلَاءِ مَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ إلَّا لِيُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ غَيْرَ مُسْتَأْمَنِينَ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ لَوْ تَجَمَّعُوا، وَقَصَدُوا قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَاجَزُوهُمْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِلْأَمَانِ، فَلَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى مَانِعًا ثُبُوتَ الْأَمَانِ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْلَى.
وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْبَغْيِ إذَا دَعَوْا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَعَانَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُمْ يَسْبُونَهُمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مُوَادَعَةَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَإِنْ كَانَتْ عَامِلَةً فِي حَقِّ أَهْلِ الْعَدْلِ فَهُمْ بِالْقَصْدِ إلَى مَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ صَارُوا نَاقِضِينَ لِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ، وَالْتَحَقُوا بِمَنْ لَا مُوَادَعَةَ لَهُمْ، مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي حُكْمِ السَّبْيِ مَنْ لَحِقَ بِعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَحَارَبَ مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ حَتَّى لَا يُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَلَا تَنْقَطِعُ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، فَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِمَّنْ الْتَحَقَ مِنْ أَهْلِ عَسْكَرِهِ بِمَنْ خَالَفَ، وَلَمَّا قَالَ لِلَّذِي أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ يُخَاصِمُ فِي زَوْجَتِهِ: أَنْتَ الْمُمَالِئُ عَلَيْنَا عَدُوَّنَا.
قَالَ: أَوْ يَمْنَعُنِي ذَلِكَ عَدْلَكَ.
فَقَالَ: لَا، وَقَضَى لَهُ بِزَوْجَتِهِ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ الْحُكْمِيَّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَهُنَا فَمَنَعَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ كُلُّهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلِهَذَا لَا يُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَلَا تَنْقَطِعُ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.