الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التبر المسبوك في نصيحة الملوك **
إن الوالي في الأغلب يكون متكبراً ومن التكبر يحدث عليه السخط الداعية إلى الانتقام والغضب غول العقل وعدوه وآفته وقد ذكرنا ذلك في كتاب الغضب في ربع المهلكات. وإذا كان الغضب غالباً فينبغي أن يميل في الأمور إلى جانب العفو ويتعود الكرم والتجاوز فإذا صار ذلك عادة لك ماثلت الأنبياء والأولياء ومتى جعلت إمضاء الغضب عادة ماثلت السباع والدواب. حكاية يقال أن أبا جعفر المنصور أمر بقتل رجل والمبارك بن الفضل حاضر فقال: يا أمير المؤمنين أسمع خبراً قبل أن تقتله: روى الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان يوم القيامة وجمع الخلائق في صعيد واحد نادي منادٍ من كان له عند الله يد فليقم فلا يقوم إلا من عفا عن الناس فقال أطلقوه فأني قد عفوت عنه). وأكثر ما يكون قال عيسى عليه السلام ليحيى بن زكريا عليهما السلام: إذا ذكرك أحد بشيء وقال فيك صحيحاً فاشكر الله وإن قال فيك كذباً فازدد من ذكر الشكر فإنه يزيد في ديوان أعمالك وأنت مستريح يعني أن حسناته تكتب لك في ديوانك. وذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقيل إن فلاناً رجل قوي شجاع فقال: كيف ذاك فقالوا: يقوى بكل أحد وما صارع أحداً إلا صرعه فقال عليه الصلاة السلام: (القوي الشجاع من قهر نفسه لا من صرع غيره). وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كانت فيه فقد كمل إيمانه من كظم غيظه وأنصف في حال رضاه وغضبه وعفا عند المقدرة). وقال عمر ابن الخطاب: لا تعتمد على خلق رجل حتى تجربه عند الغضب. حكاية قيل عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه بلغه عن رجل كلام يكرهه فأخذ طبقاً مملوأً من التمر الجني وحمله بنفسه إلى دار ذلك الرجل فطرق الباب فقام الرجل وفتح الباب فنظر إلى الحسين ومعه الطبق فقال: وما هذا يا ابن بنت رسول الله قال: خذه فأنه بلغني عنك إنك أهديت إليّ حسناتك فقابلت بهذا. حكاية أخرى خرج زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه إلى المسجد فسبّه رجل فقصده غلمانه ليضربوه ويؤذنه فنهاهم زين العابدين وقال: كفوا أيديكم عنه ثم التفت إلى ذلك الرجل وقال: يا هذا أنا أكثر مما تقول وما لا تعرفه مني أكثر مما قد عرفته فإن كان لك حاجة في ذكره ذكرته لك فخجل واستحيى فخلع عليه زين العابدين قميصه وأمر له بألف درهم فمضي الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا الشاب ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويروى أن زين العابدين استدعى غلاماً له وناداه مرتين فلم يجبه فقال له زين العابدين: أما سمعت ندائي فقال: بلى قد سمعت قال: فما حملك على تركك إجابتي عليّ قال: أمنت وعرفت طهارة أخلاقك فتكاسلت فقال: الحمد لله الذي أمن مني عبدي. ويروى عنه أنه كان له غلام فعمد إلى شاة فكسر رجلها فقال له: لم فعلت هذا قال: فعلته عمداً لأغيظك قال: ما أنا أغيظ من الذي علمك وهو إبليس أذهب فأنت حر لوجه الله تعالى. ويروى أن رجلاً سبه فقال له زين العابدين: يا هذا بيني وبين جهنم عقبة إن أنا أجزتها فما أبالي وإن أنا لم أجزها فأنا أكثر مما تقول. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد يبلغ الرجل بحلمه وعفوه درجة الصائم القائم ويكون رجل يكتب في جريدة الجائرين ولا ولاية له ولا حكم إلا على أهل منزله). ويروى أن إبليس رأى موسى عليه السلام فقال: يا موسى أعلمك ثلاثة أشياء وتطلب لي من الله حاجة واحدة فقال: وما الثلاثة أشياء فقال يا موسى أحذر من الغضب والحرد فإن الحَردان يكون خفيف الرأس وأنا ألعب به كما يلعب الصبيان بالكرة وأحذر من البخل فإني أفسد على البخيل دنياه ودينه وأحذر من النساء فإني ما نصبت للخلق شركاً اعتمد عليه مثل النساء. وقال عليه الصلاة والسلام: (من كظم غيظه وهو قادر على أن لايكظمه ملأ الله قلبه بالإيمان ومن لم يلبس ثوباً طويلاً خوفاً من التكبر والخيلاء ألبسه الله تعالى حلل الكرامة). وقال عليه الصلاة والسلام: (ويل لمن يغضب وينسى غضب الله). جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمني عملاً ادخل به الجنة فقال: لا تغضب. قال: ثم ماذا قال: استغفر الله قبل صلاة العصر سبعين مرة لتكفر عنك ذنوب سبعين سنة فقال: ما لي ذنوب سبعين سنة فقال: لأمك قال: وما لأمي ذنوب سبعين سنة قال: لأبيك قال: وما لأبي ذنوب سبعين سنة قال: لأخوتك قال: نعم. وروى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم يوماً مالاً فقال له رجل: ما هذه القسمة يعني أنها ليست بإنصاف فحكيت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب واحمرّ وجهه ولم يقل شيئاً سوى أن قال: رحم الله أخي موسى فإنه أوذي فصبر على الأذى. فهذه الجملة من الحكايات والأخبار تقنع في نصيحة الولاة إذا كان أصل إيمانهم ثابتاً اثر فيه هذا القدر فإن لم يؤثر ما ذكرناه فيهم فقد أخلوا قلوبهم من الإيمان وإنه ما بقي من إيمانهم إلا الحديث باللسان. عامل يتناول من أموال المسلمين في كل سنة كذا وكذا ألف درهم ويبقى في ذمته ويطالب بها في القيامة ويحصل بمنفوعها ويبؤ بالعقوبة والعذاب يوم المرجع والمآب كيف تؤثر عنده هذه الأسباب وهذا نهاية الغفلة وقلة الدين وضعف النحلة. إنك في كل واقعة تصل إليك وتعرض عليك تقدر إنك واحد من جملة الرعية وإن الوالي سواك فكل ما لا ترضاه لنفسك لا ترضى به لأحد من المسلمين وإن رضيت لهم بما لا ترضاه لنفسك فقد خنت رعيتك وغششت أهل ولايتك. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعداً يوم بدر في ظل فهيط الأمين جبريل عليه السلام فقال: يا محمد أتقعد في الظل وأصحابك في الشمس. فعوتب بهذا القدر. وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحب النجاة من النار والدخول إلى الجنة فينبغي أن يكون بحيث إذا جاءه الموت وجد كلمة الشهادة بلسانه وكل ما لا يرضى به لنفسه لا يرضى به لأحد من المسلمين). وقال عليه الصلاة والسلام: (من أصبح في قلبه همة سوى الله فليس من الله في شيء ومن لم يشفق على المسلمين فليس منهم). مس.... فعوتب بهذا القدر وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحب النجاة من النار والدخول الى الجنة فينبغي أن يكون بحيث إذا جاءه الموت وجد كلمة الشهادة بلسانه وكل ما لا يرضى به لنفسه لا يرضى به لأحد من المسلمين). وقال عليه الصلاة والسلام: (من أصبح في قلبه همة سوى الله فليس من الله في شيء ومن لم يشفق على المسلمين فليس منهم). أن لا تحتقر انتظار أرباب الحوائج ووقوفهم ببابك وأحذر من هذا الخطر ومتى كان لأحد من المسلمين إليك حاجة فلا تشتغل عن قضائها بنوافل العبادات فإن قضاء حوائج المسلمين أفضل من نوافل العبادات. نكتة كان يوماً عمر بن عبد العزيز يقضي حوائج الناس فجلس إلى الظهر وتعب فدخل بيته ليستريح من تعبه فقال له ولده: وما الذي يؤمنك أن يأتيك الموت في هذه الساعة وعلى بابك. أن لا تعود نفسك الاشتغال بالشهوات من لبس الثياب الفاخرة وأكل الأطعمة الطيبة لكن تستعمل القناعة في جميع الأشياء فلا عدل بلا قناعة. نكتة سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض الصالحين فقال: هل رأيت من حلاي شيئاً تكرهه قال: سمعت أنك وضعن على مائدتك رغيفين وأن لك قميصين أحدهما لليل والآخر للنهار فقال: غير هذين شيء فقال: لا. قال: والله إن هذين لا يكونان أبداً. إنك متى أمكنك أن تعمل الأمور بالرفق واللطف فلا تعملها بالشدة والعنف. قال صلى الله عليه وسلم: (كل والٍ لا يرفق برعيته لا يرفق الله به يوم القيامة). ودعا عليه الصلاة والسلام يوماً: (اللهم الطف بكل والٍ يلطف برعيته واعنف على كل والٍ يعنف على رعيته). وقال عليه الصلاة والسلام: (الولاية والإمرة حسنتان لمن قام نكتة: كان هشام بن عبد الملك من خلفاء بني أمية فسأل يوماً أبا حازم وكان من العلماء: ما التدبير في النجاة من أمور الخلافة قال: أن تأخذ الدرهم الذي تأخذه من وجه حلال وان تضعه في موضع حق. قال: من يقدر عل هذا قال: من يرغب في نعيم الجنان ويرهب من عذاب النيران. أن تجتهد أن ترضى عنك رعيتك بموافقة الشرع قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (خير أمتي الذين يحبونكم وتحبونهم وشر أمتي الذين يبغضونكم وتبغضونهم ويلعنونكم وتلعنونهم وينبغي للوالي أن لا يغتر بكل من وصل إليه وأثنى عليه وأن لا يعتقد أن الرعية مثله راضون عنه وأن الذي يثني عليه إنما يفعل ذلك من خوفه منه بل ينبغي ترتيب معتمدين يسألون عن حاله من الرعية ليعلم عيبه من ألسنة الناس). إن لا يطلب رضا أحد من الناس بمخالفة الشرع فإن من سخط بخلاف الشرع لا يضر سخطه. كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يقول: إني لأصبح ونصف الخلق علي ساخط ولابد لكل من يؤخذ منه الحق أن يسخط ولا يمكن أن يرضى الخصمين وأكثر الناس جهلاً من ترك الحق لأجل رضا الخلق. كتب معاوية إلى عائشة رضي الله عنهما أن عظيني عظة مختصرة فكتبت إليه تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من طلب رضا الله تعالى في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ومن طلب رضا الناس بسخط الله تعالى سخط الله عليه وأسخط الخلق عليه مثل أن لا يأمرهم بالطاعة ولا يعلمهم أمور الدين ويطعمهم الحرام ويمنع الأجير أجرته والمرأة مهرها سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)
وإذ قد عرفت أصول شجرة الإيمان وعرفت فروعها فاعلم أن هناك عينين للعلم تستمد الشجرة منهما الماء. اعلم يا سلطان العالم أن الدنيا منزلة وليست بدار قرار والإنسان مسافر فأول منازله بطن أمه وآخر منازله لحد قبره وإنما وطنه وقراره ومكثه واستقراره بعدها. فكل سنة تنقضي من الإنسان فكالمرحلة وكل شهر ينقضي منه فكاستراحة المسافر في كريقه وكل أسبوع فكقرية تلقاه وكل يوم فكفر سوف يقطعه وكل نفس كخطوة يخطوها وبقدر كل نفس يتنفسه يقرب من الآخرة. وهذه الدنيا قنطرة فمن عمر القنطرة واستعجل بعمارتها فني فيها زمانه ونسى المنزلة التي هي مصيره ومكانه وكان جاهلاً غير عاقل وإنما العاقل الذي لا يشتغل في دنياه إلا لاستعداده لمعاده ويكتفي منها بقدر الحاجة ومهما جمعه فوق كفايته كان سماً ناقعاً ويتمنى أن تكون جميع خزائنه وسائر ذخائره رماداً وتراباً لا فضة ولا ذهباً ولو جمع مهما جمع فإن نصيبه ما يأكله ويلبسه لا سواه وجميع ما يخلفه يكون عليه حسرة وندامة ويصعب عليه نزعه عند موته فحلالها حساب وحرامها عذاب أن كان قد جمع المال من حلال طلب منه الحساب وإن كان قد جمع من حرام وجب عليه العذاب وكان إيمانه صحيحاً سالماً لحضرة الديان فلا وجه ليأسه من الرحمة والرضوان فإن الله جواد كريم غفور رحيم. واعلم أيها السلطان أن راحة الدنيا أيام قلائل وأكثرها منغص بالتعب مشوب بالنصب وبسببها تفوت راحة الآخرة التي هي الدائمة الباقية والملك الذي لا نهاية له ولا فناء فيسهل على العاقل أن يصبر في هذه الأيام القلائل لينال راحة دائمة بلا انقضاء. نكتة لو كان للإنسان معشوقة وقيل له إن صبرت عنها هذه الليلة سلمت إليك ألف ليلة بلا تعب ولا نصب وإن كنت تزورها فإنك لا تراها أبداً فإنه كان عشقه لها عظيماً وصبره عنها أليماً لكن يهون عليه صبره على البعد عنها ليلة واحدة لينال الآخرة بل الدنيا ليست بشيء في جنب الآخرة ولا شبه بينهما لأن الآخرة لا نهاية لها ولا يُدرك بالوهم طولها. وقد أفردنا في صفة الدنيا كتاباً لكنا نقتنع الآن بما نورده من حال الدنيا وقد أوضحنا حالها على عشرة أمثلة. المثال الأول في بيان سحر الدنيا قد قال صلى الله عليه وسلم (أحذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت وأول سحرها أنها تريك أنها ساكنة عندك مستقرة معك وإذا تأملتها خلتها وهي هاربة منك نافرة عنك على الدوام وإنما تتسلسل عل التدريج ذرة ذرة ونفساً نفساً). ومثل الدنيا مثل الظل إذا رأيته حسبته ساكناً وهو يمر دائماً وكذلك عمر الإنسان يمر بالتدريج عل الدوام وينقص كل لحظة وكذلك الدنيا تودعك وتهرب عنك وأنت غافل لا تخبر وذاهل لا تشعر ولذلك قال بعض الشعراء في المعني: وما الدُنيَا وإن كثُرت وطابَت ** بها اللذاتُ إلا كالسَرابِ يمُرُ نعيمُها بعدُ اِلتذاذِ ** ويمضِي ذاهباً مرّ السحابِ المثال الثاني من ذلك ومن سحرها أنها تظهر لك محبة لتعشقها وتريك أنها لك مساعدة وأنها لا تنتقل عنك إلى غيرك ثم تعود عدوة لك على غفلة. ومثلها مثل امرأة فاجرة خداعة للرجال حتى إذا رأوها عشقوها ودعتهم إلى بيتها فاغتالتهم وأهلكتهم. نكتة رأى عيسى عليه السلام الدنيا في بعض مكاشفاته وهي على صورة عجوز هرمة فقال لها: كم كان لك من زوج فقالت: لا يحصون كثرة فقال عيسى: ماتوا أم طلقوك فقالت: بل أنا قتلتهم وأفنيتهم فقال: يا عجباً ومن دواهيك هذا صنعك بأهلك وهم فيك راغبون وعليك يقتتلون وبمن مضى لا يعتبرون. المثال الثالث من ذلك ومن سحرها أنها تزين ظاهرها بمحاسنه وتخفي محنتها وقواتلها في باطنها لتغر الجاهل بما يرى من ظاهرها ومثلها كمثل عجوز قبيحة المنظر تخفي وجهها وتلبس حسن الثياب وتتزين وتتجمل لتفتن الخلق من بعد فإذا كشفوا عنها غطاءها وخمارها والقوا عنها إزارها ندموا على محبتها لما شاهدوه من فضائح وعاينوه من قبائحها. وقد جاء في الخبر أن الدنيا يؤتى بها يوم القيامة في صورة عجوز قبيحة مشوهة زرقاء العين وحشة الوجه قد كشّرت عن أنيابها فإذا رآها الخلائق قالوا نعوذ بالله من هذه القبيحة المشوهة فيقال لهم هذه الدنيا التي كنتم عليها تتحاسدون ولأجلها كنتم تتحاقدون وتسفكون الدماء بغير حق وتقطعون أرحامكم وتغترون زخرفها ثم يؤمر بها إلى النار فتقول: إلهي أين أحبابي فيؤمر بهم فيلقون في نار جهنم. المثال الرابع من ذلك إن الإنسان يحسب كم كان في الأزل قبل أن يوجد في الدنيا وكم يكون مدة عدمه بالموت وكم قدر هذه المدة التي بين الأبد والأزل وهي مدة حياته في الدنيا فيعلم أن مثال الدنيا كطريق المسافر أوله المهد وآخره اللحد وفيما بينهما منازل معدودة وأن كل سنة كمنزل وكل شهر لفرسخ وكل يوم كميل وكل نفس كخطوة وهو يسير دائماً فيبقى لواحد من طريقه فرسخ ولآخر أكثر وهو قاعد ذاهل وساكن غافل كأنه مقيم لا يبرح وقد اشتغل بتدبير أعمال لا يحتاج إليها بعد عشر سنين وربما يحصل بعد عشرة أيام تحت التراب. المثال الخامس من ذلك اعلم أن مثل الدنيا تتحف أهلها فيها بشهواتهم ولذاتهم من الأمور الفضائح التي يشاهدونها في الآخرة كمثل إنسان أكل فوق حاجته من طعام حلو سمين إلى أن هاض هاضت معدته فرأى فضيحته من هلاك معدته ونتونة نفسه وكره برازه وحاجته فندم بعد ذهاب لذته وبقاء فضيحته من هلاك معدته. وكذلك كلّما ألف الإنسان لذات الدنيا وتبين له ذلك كانت عاقبته أصعب ويبتلي بمثل ذلك عند نزعه خروج روحه كمن كان له نعم كثيرة وذهب وفضة وجوار وغلمان وكروم وبساتين وفارقه كان ألم فراق روحه عليه أصعب ممن ليس له إلا القليل فإن ذلك الألم والعذاب لا يزول بالموت بل يزيد لأن تلك المحبة صفة القلب والقلب بحاله لا يموت. المثال السادس من ذلك اعلم أيها السلطان أن أمور الدنيا أول ما تبدو يظنها الإنسان قريبة مختصرة وأن شغلها لا يدوم وربما كان من بعض أشغالها وأحوالها أمر يتسلسل منه أمر وينفق فيه بضاعة العمر فإن عيسى عليه السلام قال: طالب الدنيا كشارب ماء البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً ولهباً فلا يزال يشرب حتى يهلك ولا يروى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كما لا يمكن من خاض البحر أن لا يناله البلل كذلك لا يمكن من دخل في أمور الدنيا أن لا يتدنس). المثال السابع من ذلك مثل من حصل في الدنيا كمثل ضيف دُعي إلى مائدة ومن عادة المضيف أن يزين داره للأضياف ويدعو إليها قوماً بعد قوم وفوجاً بعد فوج ويضع بين يدي أضيافه طبقاً من ذهب مملوءاً بالجوهر ومجمرة من فضة من عود وبخور ليتطيبوا ويتبخروا وينالهم طيب رائحتها ثم يعاودون الطبق والمجمرة بحالهما لمالكهما ليدعو غيرهم كما دعاهم. فمن كان عاقلاً عارفاً برسم الدعوات وضع من ذلك البخور على النار وتطيب وانصرف ولم يطمع أن يتناول الطبق والمجمرة وتركهما بطيبة من قلبه وشكر لصاحب البيت وربه. ومن كان أبله أحمق توهم أن ذلك الطبق والمجمرة قد أعدا له وهم يريدون أن يهبوهما له فلما همّ بالخروج أخذ الطبق والمجمرة فلم يمكن من الخروج بهما واستعادوهما منه فضاق صدره وتعب قلبه وطلب الأقالة إذ ظهر ذنبه فالدنيا كمثل طريق المسافر ودار الضيافة ليتزودوا منها لطريقهم ولا يطمعوا في الدار. المثال الثامن مثل أهل الدنيا واشتغالهم بأشغالهم واهتمامهم بأحوالها ونسيان الآخرة وإهمالها كمثل قوم ركبوا مركباً في البحر فعدلوا إلى جزيرة لأجل الطهارة وقضاء الحاجة فنزلوا إلى الجزيرة والملاّح يناديهم لا تطيلوا المكث لئلا يفوت الوقت ولا تشتغلوا بغير الوضوء والصلاة فإن المركب سائر فمضوا وتفرّقوا في الجزيرة وانتشروا في نواحيها فالعقلاء منهم لم يمكثوا وشرعوا في الطهارة وعادوا إلى المركب فأصابوا الأماكن خالية فجلسوا في أطهر الأماكن وأوفقها وأرفعها. ومنهم قوم نظروا إلى عجائب تلك الجزيرة ووقفوا يتنزهون في زهرتها وثمارها وروضاتها وأشجارها ويسمعون طيب ترنّم أطيارها ويتعجبون من حصبائها الملونة وأحجارها فلما عادوا إلى المركب لم يجدوا موضعاً ولا رأوا متسعاً فقعدوا في أضيق مواضعه وأظلمها. ومنهم قوم لم يقنعوا بالنزهة ولم يقتصروا على الفرجة لكنهم جمعوا من تلك الحصباء الملونة ثم حملوها معهم إلى المركب فلم يجدوا مكاناً ولا فرجة فقعدوا في أضيق المواضع وحملوا ما استصحبوا من تلك الأحجار على أعناقهم فلم يمض إلا يوم أو يومان حتي تغيرت ألوان تلك الأحجار واسودت وفاح منها أكره رائحة ولم يجدوا مخلصاً من الزحام ليلقوا ثقلها عن أعناقهم فندموا على ما فعلوا وحصلوا بثقل الأحجار على أعناقهم إذ كانوا بتحصيلها اشتغلوا. ومنهم قوم وقفوا مع عجائب تلك الجزيرة وتنزهوا وفي الرجوع لم يتفكروا حتى سار المركب فبعدوا عنه وانقطعوا في أماكنهم وتخلفوا إذ لم يصيحوا إلى المنادي ولم يسمعوا فمنهم من أكلته السباع وتهشه الضباع. فالقوم المتقدمون هم القوم المؤمنون المتقون والقوم المتخلفون الهالكون هم الكفار المشركون الذين نسوا الله ونسوا الآخرة سلموا كليتهم إلى الدنيا وركنوا إليها كما قال عز من قائل: وأما الجماعة المتوسطون فهم العصاة الذين حفظوا أصل الإيمان لكنهم لم يكفوا أيديهم عن الدنيا فمنهم من تمتع بغناه ونعمته ومنهم من تمتع مع فقره وحاجته إلى أن غلبت أوزارهم وكثرت أوساخهم وأوضارهم. المثال التاسع: روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا هريرة أتريد أن أريك الدنيا) قلت: نعم يا رسول الله. فأخذ بيدي وانطلق حتى وقف بي على مزبلة فيها رؤوس الآدميين وبقايا عظام نخرة وخرق قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين فقال: (يا أبا هريرة هذه الرؤوس التي تراها كانت مثل رؤوسكم مملوءة من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا. كانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون وكانوا يجدون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تجدون فاليوم قد تغيرت عظامهم وتلاشت أجسامهم كما ترى وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها وقت الرعونة والتجمل والتزين قد ألقتها الريح في النجاسات وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها وينهبها بعضهم من بعض قد القوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد من نتنها فهذه جملة أحوال الدنيا كما تشاهد وترى فمن أراد أن يبكي علي الدنيا فليبكِ فإنها موضع البكاء). قال أبو هريرة: فبكى جملة الحاضرين. المثال العاشر كان في زمن عيسى عليه السلام ثلاثة سائرين في طريق فوجدوا كنزاً فقالوا: قد جعنا فليمضِ واحد منا ويبتاع لنا طعاماً. فمضى أحدهم ليأتيهم بطعام فقال: الصواب أن أجعل لهما سماً قاتلاً في الطعام ليأكلا منه فيموتا وانفرد بالكنز دونهما ففعل ذلك وسم الطعام. واتفق الرجلان الآخران أنه إذا وصل إليهما قتلاه وانفردا بالكنز دونه. فلما وصل ومعه الطعام المسموم قتلاه وأكلا من الطعام فماتا. فاجتاز عيسى عليه السلام بذلك الموضع فقال للحواريين: هذه الدنيا كيف قتلت هؤلاء الثلاثة وبقيت من بعدهم ويل لطلاب الدنيا من....
اعلم يا سلطان العالم أن بني آدم طائفتان: طائفة نظروا إلى شاهد حال الدنيا وتمسكوا بتأميل العمر الطويل. وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم لينظروا إلى ماذا يكون مصيرهم وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها وإيمانهم سالم وما الذي ينزل معهم من الدنيا في قبورهم وما الذي يتركونه لأعدائهم من بعدهم ويبقى عليهم وباله ونكاله، وهذه الفكرة واجبة على الخلق وهي على الملوك وأهل الدنيا أوجب لأنهم كثيراً أزعجوا قلوب الخلائق وأنفذوا إلى الناس الغلمان بالسيئات وأفزعوا الخليقة وأدخلوا في قلوبهم الرعب فإن بحضرة الحق تعالى غلاماً اسمه عزرائيل لا مهرب لأحد من مطالبته وتشتيته وكل موكلي الملوك يأخذون جعلهم ذهباً وفضة وطعاماً وصاحب هذا التوكيل لا يأخذ سوى الروح جعلاً وسائر موكلي السلاطين تنفع عندهم الشفاعة وهذا الموكل لا تنفع عنده شفاعة شافع وجميع الموكلين يمهلون من يوكلون إليه اليوم والليلة والساعة وهذا الموكل لا يمهل نفساً واحداً وعجائب أحواله كثيرة إلا أنّا نذكر من أحواله خمس حكايات.
وهو ما رواه وهب بن منبه وكان من علماء اليهود وأسلم روى أنه كان ملك عظيم أراد أن يركب يوماً في جملة أهل مملكته ويري الخلق عجائبه وزينته فأمر أمراءه وحجابه وكبراء دولته رتبة بالركوب ليظهر للناس سلطنته فأمر بإحضار فاخر الثياب وأمر بعرض خيوله المعروفة وعتاقه الموصوفة فاختار من جملتها جواداً يعرف السبق فركبه بالمركب والطوق المرصع بالجوهر وجعل يركض الحصان في عسكره ويفتخر بتيهه وتجبره فجاء إبليس فوضع فمه في منخره ونفخ هواء الكبر في أنف أنفته فقال في نفسه من في العالم مثلي وجعل يركض بالكبرياء ويزهو بالخيلاء ولا ينظر إلى أحد من تيهه وكبره وعجبه وفخره فوقف بين يديه رجل عليه ثياب رثة فسلم عليه فلم يرد عليه سلامه. فقبض على عنان فرسه فقال له الملك: إرفع يدك فإنك لا تدري بعنان من قد أمسكت. فقال: لي إليك حاجة. فقال: اذكر حاجتك. فقال: إنها سرُ ولا أقولها إلا في أذنك فأصغى إليه بسمعه. فقال: أنا ملك الموت أريد أن أقبض روحك فقال: أمهلني بقدر ما أعود إلى بيتي وأودّع أولادي وزوجتي. فقال: كلا لا تعود تراهم أبداً فإنك قد فنيت مدة عمرك وأخذ روحه وهو على ظهر الفرس فخر ميتاً. وعاد ملك الموت من هناك فأتى رجلاً صالحاً قد رضي ربه عليه فسلم عليه فرد عليه السلام فقال: لي إليك حاجة وهي سر فقال الصالح: قل حاجتك في أذني فقال: أنا ملك الموت فقال: مرحباً بك الحمد لله على مجيئك فإني كنت كثير الترقّب لوصولك ولقد طالت علي غيبتك وكنت مشتاقاً إلى قدومك فقال له ملك الموت: إن كان لك شغل فاقضِه فقال: ليس لي شغل أهم عندي من لقاء ربي عز وجل فقال: كيف تحب أن أقبض روحك فإني أمرت أنا سجدت فخذ روحي وأنا ساجد ففعل ملك الموت ما أمره به ونقله الى رحمة ربه جل وعلا. روي أنه كان ملك كثير المال قد جمع مالاً عظيماً من كل نوع خلقه الله تعالى من متاع الدنيا ليرفّه نفسه ويتفرغ لأكل ما جمعه فجمع نعماً طائلة وبني قصراً عالياً مرتفعاً سامياً يصلح للملوك والأمراء والأكابر والعظماء وركّب عليه بابين محكمين وأقام عليه الغلمان الأجلاد والحرسة والأجناد والبوابين كما أراد. وأمر ببعض الأيام أن يصطنع له من أطيب الطعام وجمع أهل مملكته وحشمه وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده وينالوا رفده وجلس على سرير مملكته واتكأ عل وسادته وقال: يا نفس قد جمعت نعم الدنيا بأسرها فالآن أفرغي بالك وكلي هذه النعم مهنأة بالعمر الطويل والحظ الجزيل. فلم يفرغ مما حدث به نفسه حتى أتى رجل من ظاهر القصر عليه ثياب رثة خلقة ومخلاته في عنقه معلقة على هيئة سائل يسأل الطعام فجاء وطرق الباب طرقة عظيمة هائلة بحيث تزعزع القصر وتزلزل وخاف الغلمان ووثبوا إلى الباب وصاحوا بالطارق وقالوا: يا ضعيف ما هذا الحرص وسوء الأدب اصبر حتى نأكل ونطعمك مما يفضل فقال لهم: قولوا لصاحبكم ليخرج إلي فلي إليه شغل مهم وأمر ملم. فقالوا تنح أيها الضعيف من أنت حتى تأمر صاحبنا بالخروج إليك فقال: أنتم عرّفوه ما ذكرت فلما عرّفوه من الطرقة الأولى فنهضوا من أماكنهم بالعصي والسلاح وقصدوه ليحاربوا فصاح بهم صيحة وقال: إلزموا أماكنكم فأنا ملك الموت فارتعدت فرائضهم وبطلت عن الحركة جوارحهم ورعبت قلوبهم وطاشت عقولهم فقال الملك: قولوا له ليأخذ بدلاً مني وعوضاً عني. فقال: ما آخذ إلا أنت ولا أتيت إلا لأجلك لأفرق بينك وبين هذه النعم التي خولتها. فقال: لعن الله هذا المال الذي غرني وأضرني ومنعني عن عبادة ربي وكنت أظن أنه ينفعني فاليوم صار حسرتي وبلائي وخرجت صفر اليدين منه وبقي لأعدائي. فأنطق الله المال حتى قال: لأي شيء تلعنني إلعن نفسك فإن الله تعالى خلقني وإياك من تراب وجعلني في يدك لتتزود بي إلى آخرتك وتتصدّق بي على الفقراء وتتزكي بي على الضعفاء ولتعمر بي الربط والمساجد والجسور والقناطر لأكون لك عوناً فى اليوم الآخر وأنت جمعتني وخزنتني وفي هواك أنفقتني ولم تشكر حقي بل كفرتني فالآن تركتني لاعدائك وأنت بحسرتك وضرائك. فأي ذنب لي حتى تلعنني ثم إن ملك الموت قال يزيد الرقاشي: كان في زمن بني إسرائيل جبار من الجبارة وكان في بعض الأيام جالساً على سرير ملكه فرأى رجلاً قد دخل من باب الدار ذا صورة منكرة وهيئة هائلة فلشدة خوفه من هجومه وهيبة قدومه وثب في وجهه وقال: من أنت أيها الرجل ومن أمرك بالدخول إلى داري فقال: صاحب الدار وأنا الذي لا يحجبني حاجب ولا أحتاج في دخولي على ملك إلى إذن ولا أرهب من سياسة سلطان ولا يفزعني جبار ولا لأحد من قبضتي فرار. فلما سمع هذا الكلام خر على وجهه ووقعت الرعدة في جسده فقال له: أنت ملك الموت قال: نعم. قال: أقسم بالله عليك ألا ما أمهلتني يوماً واحداً لأتوب من ذنبي وأطلب العذر من ربي وأرد الأموال التي أودعتها خزانتي فلا أتحمل مشقة عذابها في الآخرة. فقال: كيف أمهلك وأيام عمرك محسوبة وأوقاته مثبوتة مكتوبة فقال: أمهلني ساعة. فقال: إن الساعات في الحساب وقد عبرت وأنت غافل وقد استوفيت أنفاسك ولم يبق لك نفس واحد. فقال: من يكون عندي إذا نقلتني إلى لحدي قال: لا يكون عندك سوى عملك. فقال: مالي عمل. قال: ثم قبض روحه فخر من سريره ووقه وعلا الضجيج من أخل مملكته وارتفع ولو علموا ما يصير إليه من سخط ربه لكان بكاؤهم اكثر وعويلهم أوفر. يقال أن ملك الموت دخل على سليمان بن داود عليهما السلام فجعل يحد نظره ويطيل بصره إلى رجل من ندمائه فلما خرج قال ذلك الرجل: يا بني الله من كان ذلك الرجل الذي دخل فقال: ملك الموت. فقال: أخاف أن يريد قبض روحي فخلصني من يده. فقال: كيف أخلصك فقال: تأمر الريح أن تحملني في هذه الساعة إلى بلاد الهند لعله يضل عني ولا يجدني. فأمر سليمان الريح فحملته في الوقت والحال فعاد ملك الموت ودخل على سليمان بن داود عليهما السلام فلما دخل عليه قال له: لأي سبب كنت تطيل النظر إلى ذلك الرجل قال: كنت أتعجب منه لأني أُمرت أن أقبض روحه في أرض الهند وكان بعيداً عنها إلى أن اتفق بحمل الريح له إلى هناك فكان ما قدره الله تعالى. يروى أن ذا القرنين مر بقوم لا يملكون شيئاً من أسباب الدنيا وقد حفروا قبور موتاهم على أبواب دورهم وهم كل يوم يتعمّدون تلك القبور يكنّسونها وينظّفونها وينخرونها ويزورونها ويعبدون الله فيها وما لهم طعام إلا الحشيش ونبات الأرض. فبعث إليهم ذو القرنين رجلاً فدعا ملكهم فلم يجبه وقال: ما لي وله. فجاء ذو القرنين وقال: كيف حالكم فإني لا أرى لكم شيئاً من ذهب ولا فضة ولا أرى عندكم شيئاً من نعم الدنيا قال: لأن نعم الدنيا لا يشبع منها أحد قط. وقال: لم حفرتم القبور على أبوابكم فقال: لتكون نصب أعيننا فننظر إليها ويتجدد لنا ذكر الموت ويبرد حب الدنيا في قلوبنا فلا نشتغل بها عن عبادة ربنا فقال: ولم تأكلون الحشيش فقال: لأنا كرهنا أن نجعل بطوننا قبوراً للحيوانات ولأن لذة الطعام لا تتجاوز الحلق. ثم مد يده إلى طاقة فاخرج منها قحف رأس آدمي فوضعه بين يديه وقال: يا ذا القرنين أتعرف من كان صاحب هذا قال: كان صاحب هذا القحف ملكا من ملوك الدنيا وكان يظلم رعيته ويجور عليهم وعلى الضعفاء ويستفرغ زمانه في جمع حطام الدنيا فقبض الله روحه وجعل النار مقره وهذا رأسه ثم مد يده إلى الطاقة وأخرج قحفاً آخر فوضعه بين يديه وقال له: أتعرف من كان صاحب هذا قال: كان هذا ملكاً عادلاً مشفقاً على رعيته محباُ لأهل مملكته فقبض الله روحه وأسكنه جنته ورفع درجته ثم انه وضع يده على رأس ذي القرنين وقال: ترى أىّ هذين الرأسين يكون هذا الرأس فبكى ذو القرنين بكاء شديداً وضمه إلى صدره فقال: هيهات ما لي رغبة في ذلك. قال: ولم قال: لأن الناس جميعاً أعداؤك بسبب المال والمملكة وكلهم أصدقائي بسبب القناعة والصعلكة فالله تعالى معك. فالآن يجب أن تعرف حكايات النفس الأخير وتتيقن معرفتها. واعلم أن أهل الغفلة المغتربين لا يحبون استماع حديث الموت لئلا يبرد حب الدنيا في قلوبهم وتتنغص عليهم لذة مأكولهم ومشروبهم. وقد جاء في الخبر أن من أكثر ذكر الموت وظلمة اللحد كان قبره روضة من رياض الجنة ومن نسي الموت وغفل عن ذكره كان قبره حفرة من النار وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يصف أجر الشهداء وثواب السعداء الذين قتلوا في معركة حرب الكفار فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله هل ينال ثواب الشهداء من لم يمت شهيداً فقال عليه الصلاة والسلام: (من ذكر الموت في كل يوم عشرين مرة كان له مثل أجر الشهداء ودرجتهم). وقال عليه الصلاة والسلام: (أكثر من ذكر الموت فإنه يمحو الذنوب ويبرد الدنيا في القلوب). سئل عليه الصلاة والسلام: من أعقل الناس وأحزمهم فقال: أعقل الناس أكثرهم للموت ذكراً وأحزمهم أحسنهم له استعداداً. له شرف الدنيا وكرامة الآخرة فمن عرف الدنيا كما ذكره وكرر في قلبه ذكر النفس الأخير سهلت عليه أمور دنياه وقوي أصل شجرة الإيمان في قلبه وأخذ في النمو والزيادة ونمت فروع شجرة الإيمان عنده ولقي الله وإيمانه سالم. والله جلت قدرته وعلت كلمته ينّور بصيرة سلطان العالم ليرى الأشياء على ما هي عليه ويجتهد في آخرته ويحسن إلى عباد الله وبريته فإن في رعيته ألف ألف من الخلائق إذا عدل فيهم كان الكُل شفعاءه ومن شفع فيه من هؤلاء الخلائق من المؤمنين كان آمناً يوم القيامة من العذاب وإن ظلمهم كان الكل خصماءه وعاد أمره عظيم الخطر شديد الغرر وإذا صار الشفيع خصماً أشكل الأمر.
في ذكر العدل والسياسة وذكر الملوك وسيرهم اعلم وتيقّن أن الله سبحانه وتعالى اختار من بني آدم طائفتين وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليبينوا للعباد على عبادته الدليل ويوضحوا لهم إلى معرفته السبيل واختار الملوك لفظ العباد من اعتداء بعضهم على بعض وملكهم أزمة الإبرام والنقض فربط بهم مصالح خلقه في معايشهم بحكمته وأحَلّهم أشرف محل بقدرته كما يسمع في الأخبار السلطان ظل الله في أرضه. فينبغي أن يُعلم أن من أعطاه الله درجة الملوك وجعله ظله في الأرض فإنه يجب على الخلق محبته ويلزمهم متابعته وطاعته ولا يجوز لهم معصيته ومنازعته. قال الله تعالى: والسلطان العادل من عدل بين العباد وحذر من الجور والفساد والسلطان الظالم شؤم لا يبقى ملكه ولا يدوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم). وفي التواريخ أن المجوس ملكوا العالم أربعة آلاف سنة وكانت المملكة فيهم وإنما دامت المملكة بعدلهم في الرعية وحفظهم بالسوية وإنهم ما كانوا يرون الظلم والجور في دينهم وملتهم جائز وعمروا بعدلهم البلاد وأنصفوا العباد. وقد جاء في الخبر أن الله جلّ ذكره أوحى إلى داود عليه السلام أن آنْهِ قومك عن سب ملوك العجم فإنهم عمروا الدنيا وأوطنوها عبادي. فينبغي أن تعلم أن عمارة الدنيا وخرابها من الملوك فإذا كان السلطان عادلاً عمرت الدنيا وأمنت الرعايا كما كانت عليه في عهد أزدشير وأفريدون وبهرام كور وكسرى أنو شروان. وإذا كان السلطان جائراً خربت الدنيا كما كانت في عهد الضحاك وافراسيان وبرزدكنها الخاطىء وأمثال هؤلاء وهكذا إلى أن استولى أهل الإسلام وغلبوا العجم وأزاحوهم عن بلادهم وعن الملك وقويت دولة دين الإسلام ببركة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وذلك في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فأعلم وتيقَن أن هؤلاء الملوك الذين ذكرناهم كانوا أصحاب الدنيا وملوك الأرض وأنهم بلغوا من الدنيا مرادهم وصرفوا باللذات أوقاتهم ومضوا وبقيت أسماؤهم وسماتهم كما عددناه من أفعالهم وأوردناه من خصالهم لتعلم أن الناس إنما هم الحديث الذي يبقي بعدهم فكل إنسان يذُكر بالذي كان يفعله وينسب إليه ما كان يعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فيجب على الإنسان أن يزرع بذر الإحسان وأن يبقى عن نفسه العيوب الفاحشات والخطايا الموبقات لا سيما الملوك ليبقى بعدهم حسن الإِسم وصالح الرسم لئلا يذكر بالقبيح وقد حل بالضريح كما قال الشاعر: اهرُب مِن الذَنبِ وتُب يا فَتَى ** وإن بَدا مِنك فعُد واندم وانفِ عن نفسِك ما شَانَها ** ومن مساوُي الدهرُ خِف تسَلم وبُعدُك يُبقِى الذِكرَ لا غَيره ** فكُن حَديثاً حسناً تغنمُ
يقال أن ذكر الرجال بعدهم حياتهم الثانية في الدنيا فواجب على العقلاء قراءة أخبار الملوك والنظر في أحوال هذه الدنيا القليل وفاؤها والكثير بلاؤها وأن لا يعقلوا قلوبهم بأمانيها فإنها لا يبقى عليها صالح ولا يسلم فيها طالح. وليجتهد العاقل أن لا يكثر خصومه فإن أمر الخصوم صعب هائل والباري تعالى حاكم عادل لا بد أن ينصف يوم القيامة بين الخصوم ويأخذ من الظالم للمظلوم فلا تساوي الدنيا بأسرها أن تجعل الناس خصوماً لأجلها كما جاء في الحكاية. حكاية كان أبو علي بن إلياس إسفهسلار نيسابور فحضر يوماً عند الشيخ أبي علي الدقاق رحمه الله وكان زاهداً زمانه وعالم أوانه. فقعد على ركبتيه بين يديه وقال له: عظني. فقال له أبو علي: أيها الأمير أسألك مسألة وأريد الجواب عنها بغير نفاق. فقال: أجل أجيبك. فقال: أيها الأمير أيما أحب إليك المال أو العدو فقال: المال أحب إليّ من العدو. فقال: كيف تترك ما تحبه بعدك وتصطحب العدو الذي لا تحبه معك فبكى الأمير ودمعت عيناه وقال: نعم الموعظة هذه. وجميع الوصايا والحكم تحت هذا الكلام. والخالق سبحانه وتعالى أرسل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أخيراً حتى عادت ببركته دار الكفر دار الإيمان وأظهره في أسعد وقت وأوان وعمر الدنيا بشريعته وختم الأنبياء بنبوّته. وكان الملك في ذلك الزمان كسرى أنو شروان وهو الذي فاق ملوك إيران بعدله ونصفته وتدبيره وسياسته وذلك جميعه ببركات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ولد في زمانه ووجد في أوانه. وعاش أنو شروان بعد مولده صلى الله عليه وسلم سنتين والنبي صلى الله عليه وسلم افتخر بأيامه فقال: ولدت في زمن الملك العادل كسرى والإسم الجيد خير الأشياء. والملوك الذين كانوا قبله كانت همتهم في عمارة الدنيا والعدل بين الرعية وحفظ الجسم بالسياسة وحسن الإنالة وآثار عمارتهم التي أثروها إلى اليوم ظاهرة في العالم وكل بلد يعرف بإسم ملكه لأنهم عمروا المواضع وبنوا الضياع والمزارع واستخرجوا القنوات والمصانع واظهروا ما كان خافياً من مياه العيون وجميع ما ذكرناه كان أنو شروان يعمره بعدله وإنصافه مع تجنبه الإسراف في عفافه. حكاية يقال أن أنو شروان العادل أظهر يوماً من أيام ملكه انه مريض وأنفذ ثقافته وأمناءه أن يطوفوا أقطار مملكته وأكناف ولايته وأن يتطلبوا له لبنة عتيقة من قرية خربة ليتداوى بها. وذكر لأصحابه أن الأطباء وصفوا له ذلك فمضوا وطافوا جميع ولايته وعادوا فقالوا: ما وجدنا مكاناً خراباً ولا لبنة عتيقة. ففرح أنو شروان وشكر إلَهه وقال: إنما أردت هذا لأجرب ولايتي وأختبر مملكتي ولأعلم هل بقي في الولاية موضع خراب لأعمره فالآن لم يبق مكان إلا هو عامر فقد تمت أمور المملكة وانتظمت الأحوال ووصلت العمارة إلى درجة الكمال. واعلم: أن أولئك الملوك القدماء همتهم واجتهادهم في عمارة ولاياتهم بعدهم. روي أنه كلما كانت الولاية أعمر كانت الرعية أوفى وأشكر. وكانوا يعلمون أن الذي قالته العلماء ونطقت به الحكماء صحيح لا ريب فيه وهو قولهم: إن الدين بالملك والملك بالجند والجند بالمال والمال بعمارة البلاد وعمارة البلاد بالعدل في العباد. فما كانوا يوافقون أحداً على الجور والظلم ولا يرضون لحشمهم بالخرق والغشم علماً منهم أن الرعية لا تثبت على الجور وأن الأماكن تخرب إذا استولى عليها الظالمون ويتفرق أهل الولايات ويهربون في ولايات غيرها ويقع النقص في الملك ويقل في البلاد الدخل وتخلو الخزائن من الأموال ويتكدر عيش الرعايا لأنهم لا يحبون جائراً ولا يزال دعاؤهم عليه متواتراً فلا يتمتع بمملكته وتسرع إليه دواعي هلكته. قال مؤلف الكتاب: الظلم نوعان أحدهما: ظلم السلطان لرعيته وجور القوي على الضعيف والعني على الفقير. والثاني: ظلمك لنفسك وذلك من شؤم معصيتك فلا تظلم ليُرفع عنك الظلم كما جاء في الخير. حكاية يقال أنه كان في بني إسرائيل رجل يصيد السمك ويقوت من صيده أطفاله وزوجته فكان في بعض الأيام يتصيد فوقعت في شبكته سمكة كبيرة ففرح بها وقال: أمضي بهذه السمكة وأبيعها وأخرج ثمنها في نفقة العائلة فلقيه بعض العوانية في طريقه وقال له: أتبيع هذه السمكة فقال في نفسه: إن قلت له نعم أخذها بنصف ثمنها فقال له: ما أبيعها. فضربه العواني بخشبة كانت معه على صلبه ضربة موجعة وأخذ السمكة منه غصباً فدعا الصياد عليه وقال: إلَهي خلقتني مسكيناً ضعيفاً وخلقته قوياً عنيفاً. اللهم فخذ بحقي منه في الدنيا فإني لا أصبر إلى الآخرة. ثم إن الغاصب انطلق بالسمكة إلى منزله وسلمها إلى زوجته وأمرها أن تشويها فلما شوتها وضعتها بين يديه على المائدة فمد يده ليأكل منها ففتحت السمكة فاها ونكزت أصبعه نكزة سلبت قراره وأزالت لشدة نكزتها اصطبارة. فشكا حاله إلى الطبيب وذكر ما ناله فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع هذه الأصبع لئلا يسري الألم إلى جميع الكف. فقطع أصبعه فانتقل الألم إلى الكف وازداد تألمه وارتعدت من خوفه فرائضه فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع اليد من المعصم لئلا يسري الألم إلى الساعد فقطع يده من المعصم فانتقل الألم إلى ساعده فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع الساعد لئلا يسرى الألم إلى الكتف. فقطع الساعد فانتقل الألم إلى الكتف وتوجع فخرج هائماً على وجهه داعياً إلى ربه ليكشف ما نزل به فرأى شجرة فانكفأ إليها فأخذه النوم. فرأى في منامه كأن قائلاً يقول له: يا مسكين إلى كم تقطع يدك امضِ إلى خصمك وأرضه. فانتبه وتفكر وتذكر وقال: إنني أخذت السمكة غصباً وأوجعت الصياد ضرباً وهي التي نكزتني. فنهض وقصد المدينة وطلب الصياد فوجده فوقع بين يديه والتمس الإقالة وأعطاه شيئاً من ماله وتاب من فعله فرضي عنه خصمه ففي الحال سكن ألمه وبات تلك الليلة على فراشه وتاب واقلع عما كان يصنع ونام على توبة خالصة ففي اليوم الثاني تداركته رحمة ربه ورد يده كما كانت بقدرته فنزل الوحي على موسى عليه السلام: أن يا موسى وعزتي وجلالي وقدرتي لولا أن الرجل أرضى خصمه لعذبته مهما امتدت به حياته. حكاية كان موسى عليه السلام يناجي ربه عز وجل على الطور فقال في مناجاته: إلَهي أرني عدلك وإنصافك. فقال له: أنت رجل عجول حاد جريء لا تقدر أن تصبر. فقال: أقدر على الصبر بتوفيقك. فقال: اقصد العين الفلانية واختف بأزائها وانظر إلى قدرتي وعلمي بالغيوب. فمضى موسى وصعد إلى تل بأزاء تلك العين وقعد مختفياً فوصل إلى العين فارس فنزل عن فرسه وتوضأ من العين وشرب من مائها وحل من وسطه همياناً فيه ألف دينار فوضعه إلى جانبه وصلى ثم ركب ونسى الهميان في موضعه وسار فجاء صبي صغير فشرب من العين وأخذ الهميان فجاء بعد الصبي شيخ أعمى فشرب من الماء وتوضأ ووقف في الصلاة فذكر الفارس الهميان فعاد من طريقه إلى العين فوجد الشيخ فلزمه وقال: إني نسيت همياناً فيه ألف دينار في هذا الموضع هذه الساعة وما جاء إلى هذا المكان سواك. فقال الأعمى: تعلم أني رجل أعمى فكيف أبصرت هميانك فغضب الفارس من كلامه وجذب السيف فضرب الأعمى فقتله وفتشه عن الهميان فلم يجده فمضى وتركه فعند ذلك قال موسى: إلَهي وسيدي قد نفد صبري وأنت عادل فعرّفني كيف هذه الأحوال فهبط جبريل عليه السلام وقال: يا موسى الباري تعالى يقول: أنا عالم الأسرار أعلم ما لا تعلم. أما الصبي الصغير الذي أخذ الهميان فأخذ حقه وملكه وذلك أن أبا الصبي كان أجيراً لذلك الفارس فاجتمع عليه بقدر ما في الهميان فالذي أخذه الصبي حقه. وأما ذلك الأعمى فإنه قبل أن يعمى قتل أبا ذلك الفارس فقد اقتص منه ووصل كل ذي حق إلى حقه وعدلنا وإنصافنا دقيق. فلما علم موسى ذلك تحير واستغفر. وهذه الحكاية أوردناها ليعلم العقلاء ويتصور الألّباء أن الله جلّ ذكره لا يخفي عليه شيء وأنه يتصف من الظالم في الدنيا ولكن نحن غافلون عما جاءنا لا ندري من أين أتانا. سئل ذو القرنين فقيل له: أي شيء أنت به أكثر سروراً فقال: شيئان أحدهما العدل والإنصاف. والثاني أن أكافىء من أحسن إلى بأكثر من إحسانه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب الإحسان في كل شيء حتى إنه يحب إنساناً إذا ذبح شاة أن يمهي لها المدية ليعجل خلاصها من ألم الذبح). وقال موسى عليه السلام: إن الله تعالى لم يخلق شيئاً في الأرض أفضل من العدل والعدل ميزان الله في أرضه من تعلق به أوصله الجنة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للمحسنين في الجنة منازل حتى المحسن إلى أهله وأتباعه). وقال قتادة في تفسير هذه الآية أما الكلمة التي لي فهي أن تعبدني لا تشرك بي شيئاً. وأما التي هي لك فأنا أجازيك بعملك. وأما الكلمة التي هي بيني وبينك فمنك الدعاء ومني الإجابة. وأما الكلمة التي بينك وبين الناس فهي أن تعدل فيهم وتنصف بينهم). وقال قتادة: الظلم ثلاثة أضرب: ظلم لا يغفر لصاحبه وظلم لا يدوم وظلم يغفر لصاحبه. فأما الذي لا يغفر لصاحبه فهو الشرك بالله تعالى قال الله تعالى: وأما الظلم الذي لا يدوم فهو ظلم العباد بعضهم لبعض. وأما الظلم الذي يغفر لصاحبه فهو ظلم العبد نفسه بارتكاب الذنوب ثم يرجع إلى ربه فإن الله يغفر له برحمته ويدخله الجنة بفضله. نكتة الدين والملك توأمان مثل أخوين ولدا من بطن واحد فيجب أن يهتم ويجتنب الهوى والبدعة والمنكر والشبهة وكل ما يرجع بنقصان الشرع وإن علم أن في ولايته من يتهم بدينه ومذهبه أمر بإحضاره وتهديده وزجره ووعيده فإن تاب وإلا أوقع عليه العقاب ونفاه عن ولايته ليطهر الولاية من إغوائه وبدعته وتخلو من أهل الأهواء ويعز الإسلام ويستديم عمارة الثغور بإنفاذ العساكر والحماة إليها ويجتهد في إعزاز الحق وإعادة رونق السنة النبوية والسيرة المرضية لتحمد عند الله طريقته وتعظم في الخلق هيبته وتخاف سطوته أعداوه ويعلو قدره وبهاؤه ومنزلته ويكبر في عين أضداده ويعظم عند أنداده. ويجب أن يعلم أن صلاح الناس في حسن سيرة الملك فينبغي للملك أن ينظر في أمور الرعية ويقف على قليلها وكثيرها وعظيمها وحقيرها ولا يشارك رعيته في الأشياء المذمومة والأفعال المشؤومة. ويجب عليه احترام الصالحين وأن يثيب على الفعل الجميل ويمنع من الفعل الرديء الوبيل ويعاقب على ارتكاب القبيح ولا يحابي من أصر على المعصية ليرغب الناس في الخيرات ويحذروا من السيئات. ومتى كان السلطان بلا سياسة وكان لا ينهي المفسد عن فساده ويتركه على مراده أفسد في سائر بلاده. وقالت الحكماء أن طباع الرعية نتيجة طباع الملوك لأن العامة إنما ينتحلون ويركبون الفساد وتضيق أعينهم اقتداء بالكبراء فإنهم يتعلمون منهم ويلزمون طباعهم. ألا ترى أنه قد ذكر في التواريخ أن الوليد بن عبد الملك من بني أمية كان مصروف الهمة إلى العمارة وإلى الزراعة. وكان سليمان بن عبد الملك همته في كثرة الأكل وطيب المطعم وقضاء الأوطار والمهمات وبلوغ الشهوات وكانت همة عمر بن عبد العزيز في العبادة والزهادة. قال محمد بن علي بن الفضل: ما كنت اعلم أن طباع الرعية تجري على عادة ملوكها حتى رأيت الناس في أيام الوليد قد اشتغلوا بعمارة الكروم والبساتين واهتموا ببناء الدور. وعمارة القصور ورأيتهم في زمن سليمان ابن عبد الملك قد اهتموا بكثرة الأكل وطيب المطعم حتى كان الرجل يسأل صاحبه أي لون اصطنعت وما الذي أكلت ورأيتهم في أيام عمر بن عبد العزيز قد اشتغلوا بالعبادة وتفرغوا لتلاوة القرآن وأعمال الخيرات وإعطاء الصدقات ليعلم أن في كل زمن يقتدون بأفعاله من القبيح والجميل وإتباع الشهوات وإدراك الإرادات. حكاية: ذكروا أن في زمن الملك العادل كسرى انو شروان ابتاع رجل من رجل أرضاً فوجد فيها كنزاً فمضى سريعاً إلى البائع وأخبره بذلك فقال: إنما بعتك ولم أعلم ما فيها والكنز الذي وجدته فهو لك ومبارك عليك فقال: لا أريده ولا أطمع في أموال الناس فترافعا بهذه الدعوى إلى الملك العادل انو شروان ففرح انو شروان بذلك وقال هل لكما أولاد فقال أحدهما لي ابن وقال الآخر لي بنت فقال انو شروان أحب أن يكون بينكما قرابة ووصلة وإن تزوجا الولد بالبنت وتنفقا هذا الكنز في جهازهما ليكون لكما ولولديكما ففعلا ما أمر به وتراضيا ما رسم لهما ولو أن الرجلين كانا في زمن سلطان جائر لقال كل واحد منهما الكنز لي ولكنهما لما علما أن ملكهما عادل طلباً الحق وآثرا الصدق. وقالت الحكماء الملك كالسوق فكل أحد يحمل إلى السوق ما يعلم أنه فيه نافق وما يعلم أنه كاسد لا يحمله إلى ذلك السوق. والرجلان اللذان وجدا الكنز وترافعا إلى السلطان علما إن الزهد والعدل والصدق يعزعند الملك وأن الحق عنده نفاق فلذلك حملاه إليه وعرضاه عليه. وأما الآن في هذا الزمان فكلما يجري على يد أمرائنا وألسنة ولاتنا فهو جزاؤنا واستحقاقنا كما إننا رديئو الأعمال قبيحو الأفعال ذوو خيانة وقلة أمانة. فأمراؤنا ظلمة جائرون وغشمة معتدون. (كما تكونوا يول عليكم) فقد صح بهذا الحديث أن أفعال الخلق عائدة إلى أفعال الملك أما ترى أنه إذا وصف بعض البلاد بالعمارة وأن أهله في أمان وراحة ودعة وغبطة فإن ذلك دليل على عدل الملك وعقله وسداده وحسن نيته في رعيته ومع أهل ولايته وأن ليس ذلك من الرعية فقد صح ما قالته الحكماء (الناس بملوكهم أشبه منهم بزمانهم). وقد جاء في الخبر أيضاً (الناس على دين ملوكهم). وكان من سياسة انو شروان أن بحيث لو أن رجلاً ألقى في مكان حملاً من ذهب وبقي مهما بقي في موضعه لم يقدر أحد على إزالته من مكانه إلا صاحبه وكان يونان وزير انو شروان متقدماً عنده فقال له يوماً: أيها الملك لا تركن للأشرار فتخرب ولايتك وتفقر رعيتك فيصير حينئذ ملكك إلى الخراب وسلطانك إلى الفقر ويقبح إسمك في الدنيا فكتب انو شروان إلى عماله: إن أخبرت أنه قد بقى في جميع مملكتي أرض خراب سوى أرض سبخة لا تقبل الزرع صلبت عامل تلك الأرض. وخراب الأرض من شيئين: أحدهما عجز الملك. والثاني جوره. وكان الملوك في ذلك الزمان يتفاخرون بالعمارة ويتحاسدون على إجتماع المملكة. حكاية أرسل ملك هندوستان رسولاً إلى الملك العادل كسرى انو شروان فقال أنا أولى بالملك منك فأنفذ لي خراج ولايتك فأمر أنو شروان بإنزال الرسول ثم جمع في اليوم الثاني أرباب دولته وأعيان مملكته وأذن للرسول في الدخول إليه فلما مثل بين يديه قال له أسمع جواب رسالتك ثم أمر أنو شروان بإحضار صندوق ففتحه وأخرج منه صندوقاً صغيراً وأخرج منه قبضة من كبر وسلمه إلى الرسول وقال هل في بلادكم من هذا قال نعم من هذا عندنا كثير فقال أنو شروان: أرجع وقل لملك الهند يجب عليك أن تعمر ولايتك فإنها خراب ثم تطمع بعد ذلك في ولاية عامرة فإنك لو طفت جميع ولايتي وطلبت أصلاً واحداً من كبر لم تجده ولو سمعت أن في موضع من ولايتي أصلاً واحداً من كبر لصلبت تلك الولاية على الملك أن سيلك طريق الملوك الذين تقدموه ويعمل على سننهم ويقرأ كتب مواعظهم وقضاياهم فإنهم كانوا أطول أعماراً وأكثر تجارب وإعتباراً وإنهم فرقوا بين الجيد والرديء وعرفوا الجلّي من الخفي. وكان أنو شروان مع حسن سيرته يقرأ كتب مواعظهم ويطلب إستماع حكايتهم ويمضي على مناهجهم وسننهم وملوك هذا الزمان أجدر أن يفعلوا ذلك. حكاية سأل أنو شروان العادل يوماً وزيره يونان وقال أريد أن تخبرني بسيرة الملوك المتقدمين فقال له يونان تريد أن أمدحهم بثلاثة أشياء أم بشيئين أم بشيء واحد فقال أنو شروان أمدحهم بالثلاثة فقال يونان ما وجدت لهم في شغل من الأشغال ولا عمل من الأعمال قط كذباً. ولا رأيت لهم بشيء جهلاً. ولا رأيت لهم في حال من الأحوال غضباً. فقال أنوشروان أمدحهم بالشيئين فقال يونان كانوا دائماً يسارعون إلى الخبر وعمله. وكانوا دائماً يحذرون من أعمال الشر. فقال أمدحهم بشيء واحد فقال كانت سلطنتهم وجرأتهم على أنفسهم أكثر مما كانت على غيرهم فطلب أنو شروان الكأس وقال ولهذا سرور بالكرام الذين يأتون بعدنا ويملكون تاجنا وتختنا ويذكروننا كما نذكر نحن من تقدمنا. وأشقى الناس من إغتر بملكه وعمر الدنيا وهو لا يدري كيف ينبغي أن يعيش فيها فيعبر دنياه بالتعب ويحصل في آخراه بالندم السرمد والعذاب المؤبد. وإنما كان قصد أولئك الملوك وإجتهادهم في عمارة الدنيا ليبقى فيها بعدهم طيب الذكر مدى الأيام والدهر. كما جاء في الحكاية. حكاية كان لأنو شروان كرم يعرف بهزاركام فإجتمع يوماً فيه قيصر ملك الروم ويعفورجين ملك هندوستان في ضيافة أنو شروان فتكلم كل واحد منهم بكلمة حكمة. فقال قيصر الروم ليس شيء في هذه الدنيا أجود من فعل الخير والإسم الصالح والذكر الطيب فإنه يذكر به صاحبه دائماً فيقال بعده لم لا نكون نحن مثله. فقال أبو شروان تعالوا حتى نفعل الخير ونتفكر في الخير فقال قيصر إذا تفكرت في الخير عملت الخير وإذا عملت الخير نلت المراد فقال يعفورجين أعاذنا الله من فكرة إن نحن أظهرناها استحييناها وأن ذكرناها خجلنا وأن أخفيناها ندمنا فقال قيصر لأنو شروان أي شيء أحب إليك قال أحب الأشياء إلى أن أقضي حاجة من رآني أهلاً لقضاء حاجته فقال قيصر بل أنا أحب أن لا أذنب حتى لا أخاف ملوكاً كان هذا كلامهم. أنظر كيف كانت سيرتهم مع رعيتهم يا سلطان الإسلام فيجب أن تسمع أقوال هؤلاء وتنظر أعمالهم وتقرأ حكاياتهم من الكتب وما ينظر فيها من نعت عدلهم وإنصافهم وحسن سيرتهم وطيب خبرهم وذكرهم الجاري على ألسنة الخلق إلى يوم القيامة. كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من العدل والسياسة إلى حد أقام فيه الحد والعقاب على ولده حتى مات. وكان إذا أنفذ عمالاً إلى أعمال قال لهم إشتروا دوابكم وأسلحتكم من أرزاقكم ولا تمدوا أيديكم إلى بيت مال المسلمين ولا تغلقوا أبوابكم دون أرباب الحوائج. قال عبد الرحمن ابن عوف دعاني عمر بن الخطاب ذات ليلة وقال قد نزل بباب المدينة قافلة وأخاف عليهم إذا ناموا أن يسرق شيء من متاعهم فمضيت معه فلما وصلنا قال لي نم أنت ثم جعل يحرس القافلة طول ليلته. وقال عمر رضي الله عنه يجب علي أن أسافر لأقضي حوائج الناس في أقطار الأرض لأن بها ضعفاء لا يقدرن على قصدي في حوائجهم لبعد المكان فينبغي أن أطوف البلاد لأشاهد أحوال العمال وأسير سيرتهم وأقضي حوائج المسلمين فلا يكون في سنيّ عمر أبرك من هذه السنة.
|