الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التبر المسبوك في نصيحة الملوك **
يقال ان سليمان عليه السلام كان جالساً على سرير ملكه وقد حملته الريح في الجو فنظر سليماه إلى مملكته وطاعة الإنس والجن وانقيادهم لعظيم هيبته وسياسته فاضطرب السرير وهم بالانقلاب فقال سليما للسرير استقم فنطق السرير وقال استقم أنت حتى نستقيم نحن كما قال عز من قائل: قال أزدشير بابك يجب أن يكون الوزير ساكناً متمهلاً شجاعاً واسع الصدر حسن المقال مليح الوجه مستحيياً صامتاً حيث يحسن الصمت ومتكلماً إذا حسن الكلام ومع ذلك يجب أن يكون تقياً حسن المذهب ليطهر نفسه وينفي عنها كل ما لا يليق ولا بد من حسن الاعتقاد وينبغي أن يكون ذا تجارب ليسهل الأمور على الملك متيقظاً لينظر عواقب الأمور ويخاف عليه من تصاريف الدهور ويتحفظ أن يصيبه عيب الزمان وكل ملك كان وزيره له محباً وعليه مشفقاً كان ذلك الوزير كثير الأعداء وكان أعداؤه أكثر من أصدقائه ولا يجوز للسلطان أن يسمع في وزيره كلام المحرضين عليه الساعين به إليه ليحسده أصدقاؤه وتنكبت أعداؤه. ويجب أن يكون الوزير محمود الطريقة حتى إذا رأى ي الملك خلة مذمومة غير رشيدة رده إلى العادة المستقيمة الحميدة من غير غلظة شديدة لأن الملك إذا كان على ما لا يريده وسمع ما يكرهه منه من التقريع عمل شراً من ذلك والدليل على ذلك أن البارىء تعالى لما أرسل موسى إلى فرعون بأمره قال عز من قائل: وإذا كان الوزير محباً للملك صحيح المقال حسن الفعال كان له عوناً على ذلك وأمره بالملازمة لذلك ولا يجوز أن يعلم الوزير وسائر خاصة الملك انهم مهما فعلوه من حسن فإن ذلك بإقبال الملك وببركة ظله انفعل فالمنة حينئذ تصلح أن تكون له على الناس وأعظم فساد ينشأ في دولة الملك يكون من أمرين أحدهما من الوزير الخائن والثاني من نية الملك الرديئة الفاسدة. قال أنو شروان شر الوزراء من جرأ السلطان على الحرب وجرأه على القتال في موضع يمكن أن ينصلح الحال بغير حرب لأن الحرب في سائر الأحوال تفني ذخائر الأموال وفيها تبذل كرائم النفوس ومصونات الأرواح. حكمة في كتاب وصايا أرسطاطاليس: كل أمر ينقضي على يد غيرك بلا حرب ولا خشونة فهو خير مما تقضيه بيدك. وترتيب الوزراء انهم متى أمكنهم أن يحاربوا بالكتب فليحاربوا وان لم تتأت الأمور بالاحتيال والتدبير فليحتالوا في تأتيها بعطاء الأموال وبذل الصلات والنوال ومتى انهزم عسكر عفوا عن جنود الجند ولا يستعدجلوا بقتلهم لأنه قد يمكن قتل الأحياء ولا يمكن أحياء القتلى فإن الرجل يصير رجلاً في أربعين سنة ومائة رجل يكون رجل يصلح لخدمة الملوك وان أسر احد من الجند م أصحاب الملك كان على الوزير ان يفكه ويفديه ويخلصه ويشتريه ليسمع الجند بصنيعه فتقوى قلوبهم إذا باشروا حروبهم وعلى الوزير أن يحفظ أرزاق الجند كل إنسان على قدره وإن يدرب الرجال الشجعان بألات الحرب وان يخاطبهم بأحسن كلام ويلين لهم في الخطاب ويلطف بهم في الجواب فان الجند قد قتلوا كثيراً من الوزراء في قديم الأيام وسالف الأعوام ومن سعادة السلطان ويمن طالعه وتوحده أن يسهل الله له وزيراً صالحاً ومشيراً ناصحاً. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بأمير خيراً قيض له وزيراً نصيحاً صادقاً صبيحاً إن نسي ذكره وإن إستعان به أعانه). قال المؤلف الكتاب إن الله سبحانه وتعالى يظهر قدرته في كل حين وزمان ووقت وأوان ومن عجائب الزمان حديث البرامكة الذين لم يوجد لهم في الدنيا نظير في الكرم والعطاء وبذل المعروف والسخاء. وكان تحت حكمهم الولايات الوافرة المرتفعات وبعد انقراضهم فسدت أحوال الوزراء ولم يبق لخدمة الملوك رونق ولا نضارة إلى أن أوجد الله تعالى بركات آل سلجوق وظل دولتهم إلى النظام وأوصلهم إلى درجة الوزراء المتقدمين وأرفع بحيث أنه لم يبق أحد في الدنيا من أهل الفضل والادباء وأبناء السبيل الغرباء من شريف ووضيع إلا هو مشمول بإحسانهم مغمور بامتنانهم ولم يكن أحد من خيرهم محروماً وإنما ذكرنا هذا ليعلم من يقرأ كتابنا هذا الفرق بين الصالح وغير الصالح. حكمة قال بزرجمهر: لا تقاس الأشياء بعضها ببعض لأن جوهر الناس أجل من كل جوهر وانما زينة الدنيا جميعها بالناس والباري تعالى لا ينسب إلى الخطأ وهو واهب الصلاح لمن يشاء وأنه يؤتي كل أحد ما يصلح له ويليق به فينبغي أن يكون وزراء الملوك ومدبرو دولتهم على هذه الصفة وأن يحفظوا رسوم المتقدمين وطرائفهم وأن يلتمسوا الأموال التي تؤخذ من الرعية في أوقاتها وأحيانها وعند وجوبها واتيانها وليعرفوا الرسم ويحملوا الرعية بحسب طاقتها وقدرتها وأن يكونوا في تصيدهم كصائد الكركي لا قاتل العصفور.
ولا يجوز أن يحرصوا على تناول أموال المواريث مادام الوارث موجوداً فالطمع في ذلك مشؤوم غير جائز ويجب عليهم استمالة قلوب الرعية والحشم بهبات الفوائد والنعم ليعلموا أن كفايتهم وسمو مرتبتهم وصلاحهم منوط بصلاح الرعية ليحسن ذكرهم في الدنيا وينالوا جزيل الثواب في العقبى.
قالت العلماء ليس شيء أفضل من القلم لأنه به يمكن اعادة السالف والماضي. ومن فضل القلم وشرفه أ الله تعالى اقسم به فقال عز من قائل: وقال تعالى: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو سائر إلى يوم القيامة الحديث). قال عبد الله بن عباس في تفسير هذه الآية حكاية عن يوسف عليه السلام: قال معناه كاتب حاسب. وقال إن القلم صائغ الكلام. حكمة: قال ابن المعتز القلم معدن والعقل جوهر والقلم صائغ والخط صناعة. قال جالينوس القلم طبيب الكلام. قال بليناس القلم طلسم كبير. قال اسكندر الدنيا تحت شيئين السيف والقلم والسيف تحت القلم والقلم أدب المتعملين وبضاعتهم وبه يعرف رأي كل إنسان من قريب وبعيد ومهما كان الرجل مجرباً للزمان فانه ما لم ينظر في الكتب لا يكون كامل العقل لأن مدة عمر الإنسان معلومة ومعلوم أيضاً أن في هذه المدة القريبة والعمر قصير كم يمكنه أن يدرك بتجربته ومعلوم أيضاً كم يمكنه أن يحفظ بقلبه. السيف والقلم حاكمان في جميع الأشياء ولولا السيف والقلم ما قدمت الدنيا. وأما الكتاب فلا يجوز لهم أن يعرفوا أكثر من حدود الكتابة ليصلحوا لخدمة الاكابر. وقالت الحكماء والملوك القدماء: ينبغي أن يكون الكاتب عالماً بعشرة أشياء. الأول بعد الماء وقربه تحت الأرض ومعرفة استخراج الافتاء ومعرفة زيادة الليل والنهار ونقصانهما في الصيف والشتاء وسير الشمس والقمر والنجوم ومعرفة الاجتماع والاستقبال والحساب بالأصابع وحساب الهندسة والتقويم واختيارات الأيام وما يصلح للمزارعين ومعرفة الطب والأدوية ومعرفة ريح الجنوب ولشمال وعلم الشعر والقوافي. ومع هذا كله ينبغي أن يكون الكاتب خفيف الروح طيب اللقاء عالماً ببراية القلم وتدبيره وقطه ورفعه وخطه ومهما كان في قلبه أظهره بسنان قلمه وان يحرس نفسه أن يكون مجتمعاً متصلاً. وأن يكون الخط مبنياً ويعطي كل حرف حقه كما يحكى أنه كان لامير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنع عامل فكتب إلى عمرو بن العاص كتاباً لم يظهر سين سم الله الرحمن الرحيم فاستدعاه عمرو وقال له اظهر أولاً سين بسم الله ثم توجه بعد ذلك إلى عملك. وأول ما ينبغي للكاتب أن يعلم براية القلم فإن الإنسان إذا كان يحسن الخط ويعرف أن يبري قلمه فإن الخط على كل حال يجيء صالحاً. كان لشاهنشاه عشرة من الوزراء وكان في حملتهم لصاحب إسماعيل بن عباد فاجتمع الوزراء على تنكيسه واتفقوا على التضريب عليه وقالوا أن الصاحب لا يقدر أن يبري قلمه فلما علم بذلك شاهنشاه جمعهم وقالوا أن الصاحب أي أدب فيكم ليس لي مثله حتى تتجاسروا أن تتحدثوا عني بحضرة شاهنشاه وأن أبي علمني الوزارة ولم يعلمني التجارة أقل أدبي براية القلم وهل فيكم من يقدر أن يكتب كتاباً تاماً بقلم مكسور الرأس فجز الجماعة عن ذلك فقال له شاهنشاه اكتب أنت فأخذ الصاحب قلماً وكسر رأسه وكتب به درجاً تاماً فأقر الجماعة بفضله واعترفوا بسداده ونبله وأجود الأقلام ما كان مستقيماً أصفر اللون رقيق الوسط والقلم المحرف من جانبه الايمن يصلح للخط العربي والفارسي والعبري واللسان الدري يجب أن يكون قلمه محرفاً من الجانب الأيسر وخير الأقلام ما وصفه يحيى بن جعفر البرمكي في كتاب كتبه إلى يحيى بن ليث قلم لا غليظ ولا رقيق وسطه دقيق يجب أن تكون السكين التي يبرى بها الأقلام في غاية الحدة وان تكون براية القلم على شكل منقار الكركي محرفاً من الجانب الايمن وينبغي أن يكون المقط الذي يقط عليه في غاية الصلابة ويجب أن تكون الانقاش فارسية خفيفة الوزن والكاغد صقيلاً متساوياً وان يجوز مده لانه يتوحش بذلك الخط وأن تكون صور الحروف يشبه بعضها بعضاً ولا يقدر ذلك إلا حكيم عاقل أو من تعودت بذلك أنامله. وكان عبد الله بن رافع كاتباً لامير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال كنت أكتب يوماً فقال لي أمير المؤمنين ألق دواتك وأطل جلفة قلمك ووسع ما بين السطور واجمع ما بين الحروف وكان عبد الله بن جبلة كاتباً محسناً فقال لغلمانه لتكون أقلامكم بحرية فإن لم تكن بحرية فلتكن صفراً واقطعوا عقد الأقلام لئلا تنعقد الأمور ولا يجوز انفاذ كتاب بغير ختم فإن كرم الكتاب ختمه. وقال عبد الله بن عباس في تفسير قوله تعالى: أي مختوم. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتاباً إلى العجم وقال انهم لا يريدون كتاباً بغير ختم فختمه بخاتمه المبارك وكان عليه ثلاثة أسطر محمد رسول الله. خبر روى صخر بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب كتاباً إلى النجاشي رماه على التراب ثم أنفذه فلا جرم أنه أسلم. ولما كتب كتاباً إلى كسرى أنوشروان لم يلقه على التراب لا جرم أنه لم يسلم وقال صلى الله عليه وسلم تربوا كتبكم فإنه أنجح لحوائجكم. وقال تربوا الكتاب فإن التراب مبارك وإذا كتب الكتاب فليقرأ قبل طيه فإن رأى فيه خطأ تدراكه وأصلحه. وينبغي أن يجتهد الكاتب أن يكون الكلام قصيراً والمعنى طويلاً وأن لا يكرر كلمة يكتبها وأن يحترز من الألفاظ الثقيلة الغثة ليكون كاتبها محموداً. وفي باب الكتابة كلام طويل كثير ان ذكرناه طال الكتاب ونقتنع منه بهذا القدر فقد قيل خير الكلام ما قل ودل وجل ولم يمل.
الباب الرابع في سمو همم الملوك قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتهد أن لا تكون دنيء الهمة فاني ما رأيت أسقط لقدم الإنسان من تداني همته. وقال عمرو بن العاص المرء حيث وضع نفسه يريد إن أعز نفسه علا أمره وان أذله ذل وهان قدره. وتفسير معنى الهمة أن يرفع نفسه فإن أنفة القلب من همم الاكابر لانهم يعرفون قدر أنفسهم فيعزونها ولا يرفع قدر أحد حتى يكون هو الرافع لقدر نفسه. واعزاز المرء نفسه أن لا يختلط بالاراذل ولا يشرع في عمل ما لا يجوز لمثله أن يعمله ولا ما يعاب به والهمة والآنفة للملوك لأن الله ركب فيهم الخصلة ليتعلمها منهم الوزراء والندماء كما جاء في الحكاية. حكاية أمر أبو الدوانيق لرجل بخمسمائة درهم فقال أحمد بن الخصيب لا يجوز للملك أن يهب ما دون الألف من الاعداد. وكان هارون الرشيد يوماً راكباً في موكبه فسقط فرس رجل من عسكره فقال هارون ليعط خمسمائة درهم فأشار إليه يحيى بعينه وقال هذا خطأ فلما نزلوا قال الرشيد أي خطأ بدا مني حتى أشرت ألي بعينك فقال لا يجوز أن يجري على لسان أحد من الملوك أقل من الألف من الاعداد فقال الرشيد فإن اتفق أمر لا يجوز أن يعطى فيه أكثر من خمسمائة درهم مثل هذا فكيف يقال قل ليعطى فرساً فيدفع إليه فرس على جاري العادة والرسم وتكون قد نزهت همتك عن ذكر الحقير. ولهذا خلع المأمون ولده من ولاية عهده وذلك أن المأمون اجتاز بحجرة العباس فسمعه يقول لغلامه يا غلام قد رأيت بباب الرصافة بقلاً حسناً فخذ نصف درهم وصل إلى باب الرصافة وائتني بشيء منه فناداه المأمون من الآن علمت أن للدرهم نصفاً فأنت لا تصلح لولاية العهد وتدبير المملكة ولا يأتي منك صلاح ولا فلاح. حكمة في وصية نامة أزدشير لولده إذا أردت أن تهب لاحد من ولدك شيئاً فاجتهد أن لا يكون عطاؤك أقل من دخل ولاية أو قرية أو قيمة بلد أو رستاق يستغني به الشخص الذي تهبه تزول حاجته ويستغني اعقابه به وأولاده ما عاشوا فيحصل بذلك في حساب الاحياء لا في حساب الأموات واجتهد انك لا ترغب في التجارة بوجه من الوجود فإن ذلك يدل على دناءة همة الملك. حكمة يقال أنه كان الملك هرمز بن سابور وزير فكتب إليه كتاباً يذكر فيه أنه وصل من جانب البحر تجار معهم اللؤلؤ والياقوت والجواهر النفيسة القيمة وانني ابتعت منهم برسم الخزانة بمبلغ ألف دينار والآن قد حضر فلان التاجر وهو يطلب الجوهر بربح كثير فإن رغب مولانا فليرسم بما يرى. فكتب هرمز جوابه وقال مائة ألف ومائة ألف مثلها وأمثالها ليس لها في أعيننا خطر ولا نرغب فيها بوجه من الوجوه لنفسك ولا تعد لمثل هذا الكلام ولا تخلط في أموالنا درهماً واحداً ولا دانقاً فرداً من أرباح التجارة فإن ذلك يسقط قيمة الملك ويزري بحسن اسمه ويعود بقبح قاعدته ورسمه ويضر بصيته في حال حياته وبعد وفاته. حكى أن الأمير عمارة بن حمزة كان في بعض الأيام جالساً في مجلس الخليفة المنصور وكان يوم نظره في المظالم فنهض رجل على قدميه وقال انا مظلوم فقال من ظلمك فقال عمارة بن حمزة اغتصب ضياعي وابتز ملكي وعقاري فأمره المنصور أن يقوم من مقامه ويساوس خصمه للمحاكمة فقال عمارة يا أمير المؤمنين ان كانت الضياع له فما أنازعه فيها وإن كانت لي فقد وهبتها له ومالي حاجة في محاكمته وما ابيع مكاني الذي أكرمن به أمير بضياع ولا غيرها فتعجب الأكابر الحاضرون من علو همته وشرف نفسه ومروءته الهة والنهمة على شكل واحد وكل إنسان له منهما نصيب فواحد بالسخاء وإطعام الطعام وآخر بالعلم وآخر بالعبادة والقناعة والزهادة وترك الدنيا وطلب العقبى وآخر بطلب الزيادة. وأما الهمة بالسخاء وبذل المال واسداء النوال فينبغي أن تكون كما جاء في الحكاية. حكاية يقال أن يحيى بن خالد خرج يوماً من دار الخلافة راكباً إلى داره فرأى على باب الدار رجلاً فلما قرب نهض قائماً وسلم عليه وقال يا أبا جعفر أنا محتاج إلى ما في يدك وقد جعلت الله وسيلتي اليك فأمر يحيى أن يفرد له موضع في داره وان يحمل إليه في كل يوم ألف درهم وأن يكون طعامه من طعامه المختص به فبقي على ذلك شهراً كاملاً فلما انقضى الشهر كان قد وصل إليه ثلاثون ألف درهم فأخذ الرجل الدراهم وانصرف فقيل ليحيى في ذلك فقال والله لو أقام مدة عمره وطول دهره ما منعته صلتي ولا قطعت عنه ضيافتي. كان لجعفر بن موسى الهادي جارية عوادة تعرف ببدر الكبرى ولم يكن في زمانها أحسن وجهاً منها ولا أحذق بصناعة الغناء وضرب الأوتار منها وكانت في غاية الكمال ونهاية الجمال فسمع بخبرها محمد ابن زبيدة الأمين فالتمس منه أن يبيعها له فقال له جعفر أنه لا يجيء من مثلي بيع الجواري ولا المساومة في السراري ولولا أنها مزينة داري لأنفذتها إليك ولم أبخل بها عليك. ثم بعد ذلك بأيام جاء محمد ابن زبيدة إلى داره فرتب مجلس الشراب وأمر بدراً أن تغني له وتطربه فأخذ محمد في الشراب والطرب ومال على جعفر بكثرة الشرب حتى اسكره وأخذ الجارية معه ألى داره ولم يمد اليها يده من شرف نفسه وهمته ثم رسم من الغد باستدعاء جعفر فلما حضر قدم بين يديه الشراب وأمر الجارية أن تغني من وراء الستر فسمع جعفر غناءها فلم ينطق من شرف نفسه ولم يظهر تغيراً في محاضرته ثم أمر محمد الأمين أن يملأ ذلك الزورق الذي ركب فيه جعفر أليه دراهم فكانت الفي ألف بدرة وجملتها عشرون ألف الف درهم حتى استغاث الملاحون وقالوا ما بقي الزورق يحمل شيئاً آخر وأمر بحمله ألى دار جعفر والجارية أيضاً. هكذا كانت همم الأكابر. وسئل بعض الحكماء من أعلا الناس حالاً فقال أعلاهم همة وأكثرهم علماً وأغزرهم فهماً واصفاهم حالاً فقيل له فمن ينبغي أن يتوصل ليخلص من نحوسة حظه وضائقته فقال بالملوك والأكابر وذوي الهمم العالية والنفوس الشريفة السامية كما قيل جاور بحراً أن ملكاً. حكاية قال سعد بن سالم الباهلي اشتدت بي الحال في زمن الرشيد واجتمع علي ديون يعجزني بعض قضائها وعسر علي أداؤها واحتشد ببابي أرباب الديون وتزاحم الطالبون ولازمني الغمرماء فضاقت حيلتي وازدادت فكرتي فقصدت عبد الله بن مالك الخزاعي التمست منه أن يمدني برأيه وإن يرشدني ألى باب الفرج فقال عبد الله لا يقدر أحد على خلاصك من محنتك وهمك وضائقتك وغمكم ألا البرامكة فقلت ومن يقدر على احتمال تكبرهم والصبر على تيههم وتجبرهمز فقال تصبر على ذلك لمصلحة أحوالك فنهضت إلى الفضل وجعفر ابني يحيى بن خالد فقصصت عليهما قصتي وأبديت لهما غصتي. فقالا أعانك الله وأقام لك الكفاية فعدت إلى عبد الله ابن مالك ضيق الصدر منقسم الفكر منكسر القلب وأعدت عليه ما قالاه فقال يجب أن تكون عندنا اليوم لننظر ما يقدره الله تعالى فجلست عنده ساعة وإذا بغلامي قد أقبل فقال عبد الله أرجو أن يكون قد جاء الفرج فقم وانظر ما الشأن فنهضت وأسرعت عدواً فرأيت ببابي رجلاً معه رقعة مكتوب فيها انك لما عدت من عندنا مضيت إلى الخليفة وعرفته ما قد أفضت بك الحال أليه يصرفها إلى غرمائه فمن أين يقيم وجوه نفقاته فأمر بثمانمائة ألف درهم أخرى وقد حملت أنا من خاصتي الف الف درهم فصارت الجملة الفي ألف درهم وثمانمائة ألف درهم أصلح بها أحوالك. يقال انه كان لانو شروان نديم وكان في مجلس الشراب جام من ذهب مرصع باللؤلؤ والجواهر النفيسة فسرقه النديم ونظر اليه انو شروان فرآه وهو يخفيه فجاء الشرابي وطلب الجام فلم يجده فنادى يا أهل المجلس قد ضاع لنا جام مرصع بالجواهر فلا يخرجن أحد حتى يرد الجام فقال أنو شروان مكنهم من الخروج فإن الذي سرق الجام لا يرده والذي رآه لا يقر عليه فأين كان السخاء وعلو الهمة كانت الراحة والخير ولكن من ينكر الاحسان ويحجد الامتنان لا أصل حكاية يقال أن الرشيد استدعى صالحاً في التاريخ الذي تغير فيه علىالبرامكة وقال صالح صر إلى منصور بن زياد وقل له لنا عليك عشرة الآف ألف درهم نريد أن تحصلها في هذه الساعة وان لم يحصلها ألى المغرب فخذ رأسه عن جسده وأتني به واياك ومراجعتي في شيء من أمره. قال صالح فصرت إلى منصور وعرفته ما ذكره الرشيد من سياسته فقال له هلكت وحلف أن جميع أسبابه وأملاكه لا يقوم بمائة ألف درهم فمن أين يقوم بتحصيل عشرة الآف ألف درهم قال صالح فقلت له دبر حيلة في امرك فاني لا أقدر أن أمهل احابي فيما أمر به أمير المؤمنين فقال احملني إلى بيتي أودع أولادي وأهلي وصبيتي وأوصي أقاربي فجعل منصور يودع أهل بيته وارتفع ف منزله البكاء والاستغاثة والصراخ. قال صالح فقلت له ربما يكون لك فرج على أيدي البرامكة فامض بنا اليهم فأخذ يبكي ويصرخ حتى أتينا يحيى بن خالد فقصصت عليه القصة وشرحت عليه ما ناله فاغتم لذلك وأطرق إلى الأرض ساكناً زماناً ثم رفع رأسه ثم استدعى خازنه وقال له كم في خزانتنا من الدراهم فقال مقدار ألف ألف درهم فأمر باحضارها وأنفذ قاصداً إلى الفضل ولده فقال للرسول قل له انه عرض بيع ضياع جليلة فانفذ ما عندك من الدراهم فانفذ ألفي ألف درهم وأنفذ بآخر إلى جعفر وقال للرسول قل له اتفق لنا شغل ونحتاج فيه إلى شيء من الدراهم فانفذ جعفر ألفي ألف درهم فقال منصور يا مولاي قد تمسكت بك وما اعرف خلاصي إلا منك واتمام بقية ديني فاطرق يحيى إلى الأرض وبكى وقال يا غلام إن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان وهب جاريتنا العوادة منانير وجوهرة عظيمة القيمة فامض إليها وقل لها تنفذ تلك الجوهرة فمضى الغلام وأتى بها إليه فقال يحيى يا صالح أنا ابتعت هذه لامير المؤمنين من التجار بمائتي ألف درهم ووهبها أمير المؤمنين لدنانير العوادة وإذا رآها عرفها وقد بم الآن مال مصارة منصور يا صالح قل لامير المؤمنين ليهب لنا منصوراً. قال صالح فحملت المال والجوهرة إلى الخليفة فبينما نحن في الطريق أنا ومنصور إذ سمعته يتمثل ببيت من الشعر فتعجبت من ردائته وفساده. وخبث أصله وميلاده وهو هذا البيت. فما استوهبَتَنِي مُتمَسكاً بِي ولكن خفت مِن ألمِ النِبالِ قال صالح فحردت عليه وقلت ما على الأرض خير من البرامكة ولا شر منك اشتروك وانقذوك من الهلاك ومنوا عليك بالفكاك ولم تشكرهم وتحمدهم ولم تفعل فعل الاحرار وقلت ما قلت ثم مضيت إلى الرشيد وقصصت عليه القصة وعرفته ما جرى وكتمت عنه ما جرى من منصور من خبث الطوية مخافة على نفسه من الرشيد فعند ذلك تعجب وأمر برد تلك الجوهرة وقال شيء وهبناه لا يجوز ان نعود فيه فأعدتها إلى يحيى وقصصت عليه القصة وما جرى من منصور من سوء فعله. قال يحيى إذا كان الإنسان مقلاً وجعل يطلب العذر لمنصور. قال صالح فبكيت وقلت لا يعود الفلك الدائريخرج رجلاً مثلك في الوجود فوا أسفاً كيف يتوارى رجل مثلك له خلق مثل أخلاقك تحت التراب. حكاية يقال أنه كان بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الله بن مالك الحزاعي عداوة في السر ما كانا يظهرانها وكان سبب تلك العداوة التي بينهما أن هارون الرشيد كان يحب عبد الله بن مالك إلى ابعد غاية بحيث أن يحيى بن خالد وأولاده كانوا يقولون إن عبد الله يسحر أمير المؤمنين حتى مضى على ذلك زمان والحقد في صدورهما وقلوبهما فولى الرشيد ولاية أومينية لعبد الله وسيره إليها. ثم أن رجلاً من أهل العراق كان له أدب وذكاء وفطنة فضاق ما بيده وفني ماله واختل عليه حاله فزور كتاباً عن يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك وسافر به إلى أرمينية فحين وصل إليها قصد باب عبد الله وسلم الكتاب إلى بعض حجابه فأخذ الحاجب الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن مالك ففضه وقرأه وتدبره وعلم أنه مزور فأذن للرجل فدخل عليه فقال له حملت بعض المشقة وجئني بكتاب مزور ولكن طب نفساً فانا لا نخيب سعيك فقا الرجل أطال الله بقاء الأمير إن كان قد ثقل عليك وصولي إليك فلا تحتج في منعي لحجة فأرض الله واسعة والرازق حي متين والكتاب الذي وصل صحيح غير مزور. فقال عن حال هذا الكتاب الذي اتيت به فأن الف درهم مع الفرس والجنيب والحلة والتشريف. وان كان الكتاب مزوراً أمرت أن تضرب مائتي خشبة وان تحلق محاسنك. ثم أمر عبد الله أن يحمل إلى حجرة الحبس وان يحمل اليه ما يحتاج اليه وكتب كتاباً الى وكيله ببغداد أنه قد وصل الينا رجل معه كتاب يذكر أنه من يحيى بن خالد وأن سيء الظن في هذا الكتاب فيجب أن تتحقق الحال في هذا الكتاب لتعلم صحته من سقمه وعرفني الجواب فلما وصل كتاب عبد الله الى وكيله ركب ومضى الى باب دار يحيى بن خالد فوجده مع ندمائه وخواصه جالساً فسلم الكتاب إليه فقرأه يحيى بن خالد ثم قال للوكيل عد الينا من الغد لأكتب لك الجواب ثم التفت الى ندمائه وقال لهم ما جزاء من حمل عني كتاباً مزوراً الى عدوي فقال كل واحد منهم شيئاً يصف نوعاً من العذاب ويذكر جنساً من العقاب فقال يحيى كلكم أخطأتم وهذا الذي ذكرتم من خسة الأصل ودنائته وكلكم تعرفون قرب عبد الله من أمير المؤمنين وتعرفون ما بيني وبينه من البغض والآن قد سبب الله هذا الرجل وجعله متوسطاً في الصلح بيننا ووفقه لذلك وقيضه ليمحو حقد عشرين سنة من قلوبنا وتنصلح بواسطته شؤوننا وقد وجب علي أن أفي لهذا الرجل بتأميله وأصدق ظنونه واكتب له كتاباً إلى عبد الله ليتوفر على اكرامه واعزازه واحترامه وسمو همته. ثم إنه طلب الكاغد والدواة وكتب إلى عبد الله بخط يده. بسم الله الرحمن الرحيم وصل كتابك أطال الله بقائك وقرأته وفهمته وسررت بسلامتك وابتهجت باستقامتك وكان ظنك أن ذلك الحر زور عني كتاباً ولفق عني خطاباً وليس كذلك فإن الكتاب أنا الذي كتبته وعلى يديه أنفذته وليس بمزور عني وتوقعي من كرمك وحسن شيمك أن تفي لذلك الحر الكريم بأمله وتعرف له حرمة قصده وان تخصه منك بغامر الإحسان ووافر الامتنان فمهما فعلته في حقه فأنا المعتد به والشاكر عليه. ثم عنون الكتاب وختمه وسلمه الى الوكيل فأنفذه الوكيل الى عبد الله فحين قرأه ابتهج بما حواه وأحضر الرجل وقال أي الأمرين اللذين ذكرتهما تختار أن أفعل معك فقال الرجل العطاء أحب الي فامر له بمائتي ألف درهم وعشرة أفراس عربية منها خمسة بالمراكب المحلاة وخمسة بالحلال وعشرين تختاً من الثياب وعشرة مماليك ركاب الخيول وما يليق بذلك من الجواهر المثمنة من الثياب وسيره بصحبة مأمونه الى بغداد فلما وصل الى أهله قصد باب دار يحيى بن خالد وطلب الإذن فدخل الحاجب وقال يا مولانا ببابنا رجل ظاهر الحشمة جميل الهيئة حسن الجمال كثير الغلمان فاذن له في الدخول فدخل اليه وقبل الأرض بين يديه. فقال له يحيى ما أعرفك فقال أنا الرجل الذي كنت ميتاً من جور الزمان وغدر الحدثان فنشرتني واحييتني أنا الذي فعل معك وأي شيء أعطاك ووهب لك. فقال من بركاتك وظلك وكرمك وهمتك وفضلك أعطاني ونولني وأغنائي وقد حملت جميع عطيته وها هي ببابك والأمر اليك والحكم في يديك فقال له يحيى صنيعك معي أكثر من صنيعي معك ولك على المنة العظيمة واليد الجسيمة إذ بدلت تلك العداوة التي كانت بين وبينك وبين ذلك الرجل المحتشم بالصداقة وأنت كنت في ذلك السبب وأنا أهب من المال مثل ما وهب لك. ثم أمر له من المال بمثل ما اعطاه عبد الله ابن مالك. وإنما أوردنا هذه الحكاية ليعلم من يقرؤها أن الإنسان إذا كانت همته عالية لا يضيع أبداً كما لم يضع ذلك الرجل ولو كان خسيس الطبع لالتجأ ألى عمل دنيء وتعلق بلئام الناس ولكنه لما كانت له همة سامية تهور وأقدم وخاطر مع رجل محتشم كريم الأخلاق طاهر الأعراق فوصل بذلك التهور الى مراده. انظر الى الرجلين الكريمين المحتشمين الزعيمين السيدين وإلى سمو همتهما بماذا عاملاه وبماذا قابلاه ولم يريا في مروءتهما عقوبته وعذابه ونال من بركتهما طلابه وتخلص من شدة زمانه وضائقته وأفلت من شر محنته وعاد ذا نعمة سنية ورتبة علية وحصل بجميل الذكر على جزيل الأجر.
|